سوريا.. الجرح المتقيّح المفتوح على كلّ الالتهابات
سليمان محمود
حدثَ جدلٌ كبيرٌ حولَ تعديل بعض العبارات والمفاهيم في المناهج الدراسية في سوريا- بعد انتصار (الثورة) وسقوط النظام السابق. ومن أكثر الأمور إثارةً للجدل عبارةٌ تمّ تعديلها، تهدّدُ السلمَ الأهليّ والانتماءَ الوطنيّ.
وأمّا القديمةُ والتي كانت معتمدةً في كتاب الديانة الإسلامية، تقولُ إنّ معنى (المغضوب عليهم، والضّالين) هو(المُبتعدون عن سُبل الخير)، وتمّ تعديلها إلى (اليهود والنصارى)!
قبلَ أن نتحدّثَ عن بناء نظامٍ سياسيّ في سوريا، يجبُ أن نعملَ على بناء نظامٍ تشاركيّ- وطني- ثقافي- وسلوكيّ؛ نظامٍ مواطنيّ- إنسانيّ، يجعلُ سوريا تقفُ على قدمين صلبتين، والكلامٌ ينطبقُ على دول شرقنا البائسِ كلها.
في قضايا الاعتقاد، القرآنُ لا يتهاون ولو بقيد شَعره، ولكنّ الحسابَ عليها يومَ القيامة، أمّا في قضايا التعايش، فإنه يدعو إلى السلم الأهليّ، حتى مع المختلف معك عقائدياً.
مع الأسف، كثيرٌ منا يظنّ أنّ المغضوبَ عليهم والضالين هم اليهودُ والنصارى، وهذا رأيٌ بشريّ مخالفٌ للقرآن، وتفسيرهُ كارهٌ للآخر، رافضٌ للعيش معه، يساعدُ على ثقافة القطيعة ويهدّد السلمَ الأهليّ.
هذا فهمٌ سلفيّ، وعند العَوام يعتمدُ على حديثٍ آحاد، عن عديّ بن حاتم، رواه الترمذيّ والإمام أحمد، وقال عنه علماءُ الحديث السابقون أنه ضعيف سنداً ومتناً: ” لعنَ اللهُ اليهودَ والنصارى، اتّخذوا من قبور أوليائهم مساجدَ..”، إذ كيف يلعنهم الرسولُ والمسلمون قد اتّخذوا من قبر نبيّهم مسجداً! كما اتّخذوا من قبور الصحابة وآل البيت والأئمة مساجدَ!
كيف يلعنهم وقد طلبَ من أصحابه اللجوءَ إلى نصارى الحبشة! كيف يلعنهم وقد تزوّج منهم ماريّة القبطية! كيف يلعنهم وقد سمحَ للأحباش أن يحتفلوا بقدّاسهم في مسجده! كيف يلعنهم وقد وقّع مع اليهود ميثاقاً وطنياً من خلال صحيفة المدينة!…
تسمم بشار الأسد..هل تعرض رئيس النظام المخلوع لمحاولة اغتيال في موسكو ؟
فالحديثُ مخالفٌ لعمل المسلمين وسنّة النبيّ، وهذا كافٍ لإبطاله؛ كما لا توجدُ فتوىً تراثية تقولُ بالدعاء على اليهود والنصارى كما يفعل خطباء اليوم، وهذا الدعاءُ ظهرَ على المنابر في المرة الأولى أثناء الحملات الصليبية، وتمّ استثمارُه وإحياؤه عند احتلال فلسطين، فلا يجوزُ الدعاءُ بالسوء على أيّ طائفةٍ أو جماعةٍ بعينها، حتى لو كنتَ تختلف معهم سياسياً أو عقائدياً؛ إذ يبدأ الوعيُ الحقيقيّ وتُبنى البلادُ عندما يكون التديّنُ شأناً فردياً والقيم الإنسانية شأناً وثقافةً جمعية، ومن فقدَ إنسانيته بطلَ تديّنه.
دعونا من أصحاب التفسير والأثر، وتعالوا لنرى القرآنَ وكيف ينظرُ ويوجّه ويحكمُ ويفسّر لنا مَن هم (المغضوب عليهم والضالون)؛ وهو ما يمكن الاعتماد عليه بمصطلح (تفسير القرآن بالقرآن)؛ هذا القرآن الذي دعا دوماً إلى ثقافة التشاركية لا إلى ثقافة القطيعة، يقول تعالى: ( يا أيها الناسُ، إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إنّ اللهَ عليمٌ خبير).( الحجرات 13)
فالضالون هم الذين يؤذون الناسَ، ولا يعملون الصالحاتِ، والدليلُ قوله تعالى في سورة المؤمنين: ( قالوا ربنا غلبَتْ علينا شقوتُنا، وكنّا قوماً ضالّين)(المؤمنون 106). أيضاً هم القانطون من رحمة الله، كما في سورة الحجر: ( ومَن يقنط من رحمة ربّه إلاّ الضالون)(الحجر 56). أيضاً الطغاة والبُغاة، كما في سورة المطففين: ( وإذا رأوهم قالوا إنّ هؤلاء لضالّون)(المطففين 32).
أمّا المغضوب عليهم، فهو القاتلُ،: (ومن يقتلْ مؤمَناً متعمّداً فجزاؤهُ جهنّمُ خالداً فيها وغضبَ اللهُ عليه وأعدّ له عذاباً عظيماً)(النساء 93). وكذلك الظانّ بالله ظنّ السوء، يقول تعالى في سورة الفتح: (الظانين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء وغضب اللهُ عليهم ولعنهم..)(الفتح 6). أيضاً من المغضوب عليهم شهداءُ الزور، يقول تعالى: (ألم ترَ إلى الذين تولّوا قوماً غضبَ اللهُ عليهم، ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون)(المجادلة 14).
إذاً، المغضوبُ عليهم والضالون من الممكن أن يكونوا من أمّة محمد أو عيسى أو موسى.. أو أي ملّة أخرى، فهم غيرُ محصورين بجماعةٍ محدّدة.
الملاحظة الأهمّ هي أنّ كلّ الآيات التي تصف المغضوب عليهم والضالين تتحدث عن الأخلاق والسلوكيات، فالأخلاقُ هي الأساسُ، والشعائرُ الدينية إن لم تُنتجْ أخلاقاً مع الآخر فهي مسيئةٌ للدين الذي يحملها، لذلك قال سبحانه وتعالى:(أرأيتَ الذي يكذّب بالدّين..)، لم يقلْ: بالإسلام أو بالمسيحية، ثم ذكرَ صفاتٍ إنسانية أخلاقية: (فذلك الذي يدعّ اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين)(الماعون 2). وبملاحظة عدد آيات العبادات في القرآن نجدها 130 آية، من أصل 6236 آية، بمعدّل نسبة 2% بينما آيات الأخلاق عددها في القرآن 1504 آيات، بمعدل 24%، ومما سبقَ نجد أنّ المغضوبَ عليهم والضالين صفةٌ أخلاقية لا عقائدية، وهنا المشكلة، كما أنها صفةٌ ليست دائمة، بل لازمة للموصوف بها ما دام الفعلُ لازماً لسلوكه، وتنتفي الصفةُ عنه بالإقلاع عنها.
لا توجدُ في القرآن إطلاقاً دعوةٌ لكراهية اليهود والنصارى، كما لا يوجدُ إطلاقاً وضعُ مِلّةٍ كلّها في سلّة واحدة، ولنسمع ماذا قال القرآن عن اليهود: (وقطّعناهم في الأرض أمماً، منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك)(الأعراف 168)، انظروا في أدبيات القرآن الجميلة. وعندما تحدّث عن المسيحية قال: (ولتجدنّ أقربهم مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون)(المائدة 82). هذا بالنتيجة يعني أنّ المغضوبَ عليهم والضالين قد يكونوا من أي ملّةٍ.
بقيت مسألة: هل اليهودُ والنصارى كفّارٌ بالنسبة لنا كمسلمين؟ وليكن الجوابُ كذلك من القرآن لا من عندي، آيتين ربما آخر ما نزل من القرآن، في البقرة والمائدة: ( إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من آمن بالله واليوم الآخر، وعملَ صالحاً، فلهم أجرهم عند ربّهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون )(البقرة 62)، فهل تحاسبُ آخر لأنه مختلفٌ معك عقائدياً! إذن أنت تتألّه على الله وتخالف القرآن- القائل: ( إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنّ اللهَ يفصلُ بينهم يومَ القيامة، إنّ اللهَ على كلّ شيءٍ شهيد)(الحج 17)، لا أن تفصلَ أنت بينهم.
في هذا السياق، يحضرني مقتبسٌ من كتاب (الذات الجريحة)- الدكتور العراقي سليم مطر، حيث كتب : ” إنّ الدافعَ الأول للجوء إلى الدكتاتورية لأيّ سلطة جديدة هو ضعفُ القاعدة الاجتماعية للفئة الحاكمة، بسبب الاعتماد على أقلية لا تمثل إلا جزءاً من الشعب، مثل تجمّع عشائري أو طائفي أو ديني أو مناطقي أو سياسي أيديولوجي.. أو كلها معاً.
فمن أجل تعويض ضعف القاعدة الاجتماعية للسلطة يتم الاعتمادُ على الأجهزة الأمنية والحزبية القمعية، وبقدر ما تتمكن الدولة من تمثيل مختلف الفئات الدينية واللغوية والمناطقية والأثنية، بقدر ما تضطر بدرجة أقل لاستعمال القوة في ديمومة سلطتها
إنّ الديمقراطية لا تقوم إلا في الدولة القوية، ولا تكون الدولة قوية إلا بمدى قدرتها على تمثيل أوسع قاعدة من فئات الوطن، والدولة لا يمكنها أن تمثل كلّ تنوعات المجتمع من دون امتلاك أساسٍ (فكري تاريخي تربوي) وطني وشامل متفق عليه من قبل جميع هذه التنوعات، مهما اختلفت قناعاتها ومشاريعها السياسية.
فمن دون هوية وطنية موحدة لا يمكن أن توجد دولة وطنية موحدة، وإلا فإنّ العنفَ البوليسي والحروب الخارجية هي الوسيلة الوحيدة لديمومة الدولة التي لا تستند على هويةٍ وطنية متكاملة موحدة.
إنّ الحاجةَ لبناء هويةٍ وطنية موحدة هي حاجة إنسانية ملحّة، فأية مجموعة لا يمكن أن تمضي حياتها تعيش في رقعة واحدة وتشترك في تفاصيل الحياة اليومية من دون حدّ أدنى من الشعور بالانتماء لمثلٍ أو فكرة مشتركة؛ فليس هناك فردٌ أو جماعة يختار طواعية عدمَ الارتباط ببلاده وأبناء بلاده. إنه أمرٌ قاسٍ ومتعب أن تشعرَ بالاغتراب عن أناسٍ تتعايش معهم كلّ يومٍ وتشاركهم الأرضَ والهواء والماء والسماء. ”
نقلتهم روسيا لقواعدها خارج سوريا..هل ينضم قيادات جيش الأسد لمرتزقة فاغنر ؟
التعليقات مغلقة.