هل تصبح المياه عملة صعبة بالمستقبل ؟

بقلم د. سامي عمار

في مشهد درامي للاشتباكات المسلحة بالسودان وأوكرانيا ووسط زحام الأخبار عن التحذيرات العالمية من الذكاء الاصطناعي، بات تغير المناخ ذات حديث باهت وموسمي خاصة مع حلول فصل الصيف وتجلي الصورة المفجعة لانخفاض مناسيب الأنهار في أوروبا.
لم يعد صعباً حقاً رسم خريطة للعالم بعد قرن، البشر يستعمرون المريخ، الصين هي القوة العظمي، دولاً جديدة ولدت وأخرى ربما تفككت، قد تبدو كلها تكهنات مبنية على معطيات اليوم لكن الأكثر احتمالاً أن تصبح المياه عملة صعبة تباع في الأسواق العالمية مثل البترول والغاز.

هل تتحول أطراف أوروبا الى صحراء في المستقبل القريب؟

لم يعد مستبعد تحول الكثير من الأماكن الخضراء في العالم إلى صحاري، فالغطاء النباتي يعد نتيجة لظروف مناخية معينة من درجة رطوبة وأمطار وحرارة تقرر مدى كثافة ونوعية هذا الغطاء، ومع تسجيل دول أوروبية عدة درجات حرارة قياسية، باتت أوروبا في مرمى نيران التغير المناخي وأكثر ترشحاً للتصحر خاصة بالمناطق الجنوبية المتاخمة للصحراء الأفريقية مثل جنوب إسبانيا وإيطاليا، وتعتبر الأنهار الفرعية بأوروبا مهددة بالتلاشي وقد تتعثر الكثير من الأنهار الرئيسية في ممارسة نشاط النقل التجاري بين الدول مثل الدانوب والراين وهو ما حدث بالفعل الصيف الماضي حيث تعطلت حركة الملاحة بهم بسبب انخفاض منسوب المياه.
كما اضطرت حكومة اسبانيا لإصدار قرار بتحديد كمية محدودة من لترات المياه لكل فرد في المنتجعات السياحية على شواطئها التي تعج بالسياح مع تزايد الجفاف والعوز المائي، ووضع الاتحاد الأوروبي سياسات وتدابير أقسى للحفاظ على الموارد المائية بالاتحاد.
مزيداً من الحروب الطاحنة بسبب المياه وموجات نزوح بشرية عملاقة باتت تلوح في الأفق، ولا أحد ينسي مشاهد الحرب المدمرة في إقليم دارفور سنة 2008 والتي تتكرر اليوم، وكان تغير المناخ الذي ضرب منطقة الصحراء الكبرى السبب الرئيس لأنه تسبب في جفاف ممتد وتراجع المراعي وصعوبة الوصول للمياه ومن ثم الاقتتال على الأبار من أجل البقاء، والغريب في الأمر أن الأمم المتحدة لم تلتفت إلى هذا العامل المسبب للحرب بعد الإطاحة بعمر البشير حيث لم يهتم أحد بحل مشكلة المياه في إقليم دارفور الذي تطرق الحرب أبوابه بين الحين والأخر لتفادي تكرارها.
وفي حالة مشابهة لدارفور، شهدت نيجيريا صدامات عدة بين المزارعين والرعاة من قبائل عدة في شمال شرق البلاد عام 2019 مما أتاح الفرصة لجماعة بوكو حرام لاختراق تلك المناطق وقتل نحو 60 شخصاً ونهب عدة قرى، وكان شح المياه في حوض بحيرة تشاد وقود هذا الاقتتال القبلي! حيث شكلت تلك البحيرة المهددة بالجفاف بسبب تغير المناخ محور تجاري استراتيجي دولي بين الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا لسنوات طويلة، وتعد أحد ضحايا الاحترار العالمي.

ذلك الأمر الذي يخلق رابطاً قوياً بين التغير المناخي وتهديدات عالمية أوسع مثل الإرهاب الدولي، فهل يفسح مجالاً للجماعات المتطرفة في أفريقيا وخارجها للازدهار في مناطق يسهل استقطاب وتحريض القبائل على النزاع؟

وإلى الشمال، حيث تزداد المستوطنات اليهودية بالضفة الغربية المحتلة وتعتبر المياه سبب رئيس حيث يسهل تزويد المستوطنات بالمياه من حوض نهر الأردن والمياه الجوفية المترسبة تحته بالضفة مما يجعل انشاء مستوطنات مماثله في جنوب إسرائيل أمراً لا يقارن اقتصادياً حيثما يوجد الشح المائي بصحراء النقب، وعلى غرار دارفور، لا يلتفت الكثيرين إلى ذلك العامل الهام في تسوية النزاع مع الفلسطينيين مما يجعل الفشل مصير كل محاولة مهما تغير الوسطاء!

وإلى الشرق قليلاً، حيث تقبع هضبة التبت العملاقة في قلب آسيا لينحدر منها ستة أنهار دولية ثرية بالخلافات مثل الجانج والإندوس (السند)، ففي إقليم كشمير، تعتبر المياه سبباً لتعقد النزاع الهندي الباكستاني حيث ترفض إسلام أباد أي تنازلات لأن نهر السند ينبع من جبال كشمير وهو المغذي الرئيسي للباكستانيين وسيطرة الهند على تلك الجبال يعد سيطرة على حياة الملايين هناك، ومع التغير المناخي تتعرض تلك المنطقة لمشكلة شح مائي أكثر ضغطاً على باكستان مما سيعقد حتماً أزمة كشمير بين الدولتين المتسابقتين بالفعل في التسلح النووي علاوة على تاريخهما الحافل بالخلافات الدينية والحدودية.
وفي قلب أسيا، يتأجج الخلاف القرغيزي – الطاجيك بسبب بناء طاجيكستان سدود على النهر بين الحين والأخر حيث تستغل طاجيكستان تقاربها مع أوزبكستان وموقعها الاستراتيجي أعلى النهر لتأمين احتياجاتها من المياه، ولا تخلو التدخلات التركية العسكرية في شمال العراق وسوريا من الأطماع المائية طالما سعت أنقرة للسيطرة على نهر الفرات ذلك الأمر الذي تسبب في انخفاض منسوبه ومعاناة ملايين الصيادين والمزارعين العراقيين، ومن ثم اضطرار بغداد لإنفاق أموال طائلة للبحث عن حلول!
ونظراً للارتباط الأبدي بين المياه ووجود الدولة وأمنها القومي الاستراتيجي، سيدفع الشح المائي الحكومات لبناء مزيداً من السدود على منابع الأنهار من أجل تخزين المياه، ومن ثم تعطيش شعوب دول المصب أو العابر بأراضيها التي ستضطر بدورها لدفع أموال أكبر لتدبير احتياجاتها المائية إما بتحليه مياه البحر أو شراء المياه من جيرانهم.

تسعير المياه
وإذا حدث ذلك، ستصبح المياه حتماً عملة صعبة مثل الدولار واليورو بسبب تسارع تغير المناخ نحو حرارة أعلى وجفاف أشد علاوة على تزايد سكان العالم وعدم جدية أغلب حكومات الدول الصناعية للتحول الطاقي لبدائل الوقود الأحفوري، وهو الأمر الذي سيخلق ضغوطاً مائية أكثر على الدول الأفقر مائياً.
لذا أعتقد أن سيناريو “تسعير المياه” و”تصديرها” بين الدول سيصبح أكثر واقعية وتداولاً وستضطر دولاً كثيرة لشرائها كسلعة بالمستقبل القريب.
والملفت للانتباه خلال زيارتي لأثيوبيا في مايو الماضي للمشاركة في اجتماع اللجنة الرابعة الفنية للثقافة والشباب والرياضة بمقر الاتحاد الأفريقي، تدفق عدداً من المستثمرين الأجانب لقطاع الزراعة الاثيوبي والذي يعتبره الكثيرين قطاعاً واعداً نظراً لخصوبة الأراضي والمياه التي خزنها سد النهضة خلفه مما يجعل تكاليف الاستثمار بخسة جداً مقارنة بجودة المحاصيل المرتفعة.

المناطق المرشحة للنزاع المائي!
ويمكنني تنبؤ أماكن النزاع المحتملة بسبب المياه، حيث تعتبر جميع الدول الصحراوية والمتاخمة للصحراء مرشحة للنزاع المائي وما يسرع حدوثه عوامل أخرى تتعلق بالاضطرابات والضغوط الداخلية أو بالدول المجاورة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، بوليفيا والأرجنتين بأمريكا الجنوبية، والذي يزيد الوضع سوءاً سياسات الدول الداخلية التي تقوم بخصخصة المياه لشركات خاصة مما دفع الكثيرين من المواطنين للتظاهر ضد سياسات الدولة في لاباز وبوينس آيريس بين الحين والأخر لوقف الخصخصة وجعل المياه حق من حقوق الانسان تكفله وتتيحه الدولة لمواطنيها، علاوة على حل الخلافات المائية مع الجيران.

قيرغيزستان وطاجيكستان اللتان تتنازعان بدورهما لترسيم حدود تصل ألف كيلومتر منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.
والصين وجيرانها في جنوب شرق أسيا خاصة لاوس وكمبوديا اللتان تواجهان تحدياً مائياً هائلاً مع جارتهم العملاقة، فمع توافر إمكانيات مالية وتقنية مهولة لدي بكين، تقوم الصين ببناء سدود عملاقة لتوليد الكهرباء وضخ المياه للشمال والغرب من نهر الجانج، بل وتسعي للعب دور المسيطر الأوحد على النهر نظراً لأنه ينبع من هضبة التبت التي توجد أغلباها بالداخل الصيني.
الهند وجيرانها، حيث يعتبر نهري تيستا والجانج بؤرة نزاع مرشحة بين الهند وبنجلاديش، والهند وباكستان في إقليم كشمير كما تم التوضيح مسبقاً بسبب نهر السند.
وبعض الدول قد تواجه الخطران معاً نزاع داخلي وأخر عابر للحدود، وتعتبر السودان مثالاً لذلك حيث تشتعل أزمة دارفور بين الحين والأخر بسبب الأبار علاوة على الخلاف مع اثيوبيا بسبب سد النهضة على حدودها الشرقية، والذي لا يزال قيد التفاوض مع مصر.

ورغم الجهود الحثيثة من القاهرة للتوصل لاتفاق عادل مع أديس أبابا، بادرت الأولى بوضع تدابير ومشاريع صارمة لإدارة الموارد المائية مثل تبطين الترع والانتقال من منظومة الري بالغمر إلى التنقيط، وهو ما يزيد فاتورة تكيف الدول مع التغير المناخي والشح المائي المترتب عليه!

مزيداً من الشح المائي وفرص الصراع، والعلاقة المشبوهة بين التغير المناخي وتنامي الإرهاب بالدول الفقيرة وزعزعة الأمن العابر للحدود مثل حوض بحيرة تشاد،
فقد يبدو بيع المياه بين الدول أمراً يثير الاستهجان والتحفظ وربما الاستنكار اليوم، لكن واقع الغد قد يفرضه ويجعل المياه عملةً صعبة المنال!

Advertisements

بواسطة admin

رئيس تحرير الشمس نيوز

33 تعليق

اترك تعليقاً

Exit mobile version