بقلم: بهجت العبيدي
في ظل عالم يموج بالأزمات والتحولات السياسية، طُرحت نظرية الفوضى الخلاقة كأداة استراتيجية استخدمتها القوى الكبرى لإعادة صياغة المنطقة العربية وفق مصالحها الخاصة. ورغم الجدل الذي أثارته، فإن آثارها المباشرة كانت واضحة في عدد من الدول العربية التي عصفت بها رياح هذه النظرية، والتي لم تكن مجرد أفكار نظرية بل تطبيقات عملية هدفت إلى تفكيك المجتمعات وإعادة تشكيلها وفق قوالب جديدة.
بلاد الرافدين بلا روافد.. والـ “Gap” التركي السبب
ترجع جذور مصطلح الفوضى الخلاقة إلى الفيلسوف اليهودي برنارد لويس، الذي رأى في الفوضى وسيلة لإعادة بناء المجتمعات بما يخدم المصالح الكبرى للقوى العالمية. وقدمت هذه النظرية نفسها كحالة من الاضطراب المتعمد الذي يُحدث تغييرات جذرية في بنية المجتمعات. وبالنسبة للشرق الأوسط، كان الهدف المعلن من هذه الفوضى نشر الديمقراطية كوسيلة لمواجهة “التطرف الديني”، إلا أن التطبيق العملي للنظرية أدى إلى انهيار دول واندلاع صراعات دموية تركت شعوب المنطقة في حالة من التمزق.
الفوضى الخلاقة في الدول العربية
كانت ليبيا أحد أبرز مسارح الفوضى الخلاقة، حيث أدى التدخل الدولي للإطاحة بنظام معمر القذافي إلى انهيار الدولة. ومع غياب مؤسسات قوية تحمي البنية الاجتماعية والسياسية، تحولت البلاد إلى ساحة صراع بين الميليشيات المسلحة، وأصبحت مسرحًا لتدخلات إقليمية ودولية.
لم يكن العراق بعيدًا عن تطبيق هذه النظرية. فبعد الإطاحة بنظام صدام حسين في عام 2003، تفككت مؤسسات الدولة، وسادت حالة من الفوضى. اتسعت الصراعات الطائفية، وأصبح العراق نموذجًا مأساويًا لفقدان الأمن والاستقرار، حيث فشلت كل محاولات إعادة البناء في ظل التجاذبات الإقليمية والصراعات الداخلية.
وشهد اليمن أيضًا موجة عارمة من الاضطرابات، حيث استغلت نظرية الفوضى الخلاقة الخلافات الداخلية لتحويل البلاد إلى ساحة حرب متعددة الأطراف. انهيار الدولة المركزية، تصاعد الصراعات القبلية والطائفية، وتحول اليمن إلى أزمة إنسانية مستمرة، كانت كلها نتائج مباشرة لهذه السياسة.
أما في السودان، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة كيف يمكن للفوضى السياسية أن تتطور إلى صراعات دموية. فبعد عقود من الانقسام والاضطرابات، دخل السودان في حلقة مفرغة من النزاعات، حيث ساهم غياب الرؤية السياسية الموحدة وضعف المؤسسات الوطنية في تحويله إلى نموذج آخر للفوضى الخلاقة.
ولقد وصلت الفوضى الخلاقة إلى ذروتها في سوريا، حيث تحولت انتفاضة شعبية إلى حرب شاملة تعددت أطرافها. التدخلات الدولية، وانقسام المعارضة، وصراع المصالح الإقليمية، كل ذلك ساهم في تحويل البلاد إلى ساحة حرب كارثية. ومع تدمير المدن، وتشريد الملايين، وتحول سوريا إلى ملعب لقوى إقليمية ودولية، أصبحت البلاد شهادة حية على الكلفة الباهظة للفوضى الخلاقة.
التجربة المصرية
وسط هذا المشهد المضطرب، برزت التجربة المصرية كحالة مغايرة أثبتت أن الوعي الشعبي والتحام مؤسسات الدولة يمكن أن يكونا حصنًا منيعًا أمام مخططات الفوضى. فمع اندلاع ثورة 30 يونيو 2013، لعب الجيش المصري دورًا محوريًا في الحفاظ على الدولة ومنعها من الانزلاق نحو الفوضى. ولم يكن الجيش وحده العامل الحاسم، بل كان المثقفون والمفكرون المصريون في طليعة المواجهة الفكرية، حيث ساهموا في توعية الشعب بمخاطر انهيار الدولة.
لقد قدمت مصر نموذجًا متكاملًا في مواجهة الفوضى الخلاقة، حيث تعاونت القيادة السياسية مع الجيش ومؤسسات الدولة لحماية البلاد من الانهيار. هذا التحالف بين الشعب والمؤسسات الوطنية أثبت أن الوقوف صفًا واحدًا أمام محاولات زعزعة الاستقرار كفيل بإفشال أي مخططات تهدف إلى نشر الفوضى.
ولإجهاض مخططات الفوضى الخلاقة هذه، يجب أن تدرك الشعوب والدول العربية أن الوقاية خير من العلاج، وأن بناء الحصانة الوطنية يتطلب رؤية شاملة تعتمد على عدة ركائز. أولًا، يجب تعزيز المؤسسات الوطنية لتكون قادرة على مواجهة الأزمات، عبر تطوير البنية الإدارية والأمنية للدولة وإبعادها عن الاستقطابات السياسية أو الأيديولوجية. ثانيًا، يجب ترسيخ ثقافة الحوار والاعتدال داخل المجتمعات، والتأكيد على قيم المواطنة التي تضمن أن تكون الولاءات للوطن وليس للطوائف أو الجماعات.
ثالثًا، يلعب التعليم دورًا رئيسيًا في بناء وعي الأجيال الجديدة، لذا يجب التركيز على تطوير المناهج التي تغرس قيم التفكير النقدي والوحدة الوطنية. رابعًا، لا بد من وجود إعلام واعٍ يكون قادرًا على كشف المؤامرات وتقديم خطاب يرفع الوعي العام بمخاطر الانزلاق إلى الفوضى. كما أن التعاون الإقليمي بين الدول العربية يعد ضروريًا لتشكيل جبهة موحدة ضد التدخلات الخارجية التي تستغل نقاط الضعف. وأخيرًا، فإن الاستثمار في الشباب باعتبارهم طاقة المستقبل، عبر توفير فرص العمل وتشجيعهم على المشاركة السياسية، هو الضمانة الحقيقية لحماية المجتمعات من أي محاولة لزعزعة استقرارها.
إذا تمكنت الشعوب والدول العربية من العمل وفق هذه الركائز، فإنها لن تكتفي بإفشال خطط الفوضى الخلاقة فحسب، بل ستفتح أبوابًا جديدة لبناء مستقبل مستقر ومزدهر للأجيال القادمة.