بقلم / محمد جمعة ألا
يقترح هوبز في كتابه “الليفياثان” ما يمكن تسميته بفرضية “ابتزاز الحماية”، وهي قائمة على التخلي الإرادي للحق الذاتي في الحرية في سبيل الحفاظ على أمن الجماعة “غريزة المحافظة على الذات”. فما دمت باعتباري أنا الدولة التي لوحدها تستطيع أن تحميكم من أنفسكم “حرب الكل ضد الكل”، فإنه من واجبكم أن تتخلوا عن حريتكم. وهنا يمارس الليفياثان الشكل الأقصى لعملية الابتزاز، فكلما ازداد الخوف كلما نهض الليفياثان وتقوّى، وذلك تحت بند الحماية.
الدولة في فكر هوبز
إن هوبز يقدم لنا وبجدارة وثيقة نشوء الدولة في ذاتها، أي تلك الدولة التي تمتلك الجهاز العنفي المجرد والتي تستطيع ممارسته متى تشاء مادامت تمتلك الحجة الأخلاقية “حماية الجماعة”.
خطر التقارب الهوياتي عند هوبز
لم يختر الفيلسوف الإنجليزي “هوبز” هذا المثال من الدولة ترفًا، فهو أدرك أن النمط المعاش من التشكيلات الاجتماعية “الهوياتية” جديرٌ بأن ينتهي إلى انقراض الإنسان، أي تلك المجتمعات التي تتبنى الشكل الهش من الهوية باعتباره الحقل المفهومي الوحيد للانتماء.
إن التقارب الهووي، سواء بشكله الطائفي أو العرقي أو الديني أو الجهوي، هو بمثابة الإعلان الصريح عن زوال المجتمعات. ولعل أكبر أمثلتنا عن هذه التطبيقة الهوبزية، هو ما تعيشه الجماعات المتقاسمة المقسومة داخل الدولة السورية “حرب الكل ضد الكل”.
أزمة الهوية في سوريا
الهويات المتعددة والمتشعبة التي تطفو على الوجه السوري كفيلة بأن تجعل هذه البقعة الجغرافية ساحة معركة تكرارية ولا نهائية. فما دمت لا أتوفر إلا على صيغ معينة من الانتماء، وهي الصيغة الأسوأ، وهنا نقصد الانتماء للهوية، فإن الآخر المختلف عني سيتحول في ذات اللحظة إلى عدو.
فباعتباري أملك هويةً فريدةً تستلف من الأنا جماعية عنجهيتها، فإن الآخر يصبح معدوم الخيار أمام هذا الغول الهوياتي، فإما أن يضطر إلى الإدماج معي أو يتعرض إلى النفي الوجودي.
القتل العبثي والهوية القاتلة
إن هذا الفائض اللاعقلاني من المواجهة بين الهويات، سواء الطائفية أو العرقية أو الدينية أو الجهوية، يحوّل الإنسان السوري إما إلى قاتل أو مقتول، ومن ثم فهو مضطر إلى أن يستملك على استراتيجية معينة لكيفية الحفاظ على نفسه، وذلك من خلال الانتماء إلى الجماعة الهووية القادرة على المواجهة.
فكل قاتلٍ هوي هو في كينونته قاتلٌ جبان. إنه لا يملك مقدرةً حيويةً للحفاظ على ذاته المرهقة إلا بعملية قتل الآخر، فهو دائماً يعيش أزمة خوف. ومن ثم تخوض الجماعة عملية قتل عبثية، إذ إن القتال الهووي مجردٌ من أي هدف أخلاقي.
القتال الطائفي
الاقتتال الطائفي مثلاً لا يظهر فقط لأنه مدفوع بكراهيةٍ تجاه الآخر، بمعنى أنه غير مجبولٍ فقط بالحالة السايكولوجية. إن أساس الاقتتال الطائفي إنما يحمل على بُعده الحيواني، وهي غريزة المحافظة على الذات.
وبكرّةٍ واحدة، فإن الاستعمال الهوياتي، سواء بشكله الطائفي أو العرقي أو الجهوي لخلق عملية الانتماء، إنما هو في مضمونه أسوأ أنواع الانتماء. إنه الشكل البدائي والحيواني للبشر، التي لطالما نهضت الثقافات واختلطت وتدامجت وتمازجت لإزاحة هذا الشكل العنيف في مقابل اقتراح أشكالٍ حيويةٍ أخرى من أنثروبولوجيتنا.
الموت بلا معنى
إن السني داخل البقعة السورية عندما يقتل علوياً أو بالعكس، فإنه يقدم هذا العمق العقيم والبدائي للانتماء. إنه في تلك اللحظة يستقيل من أنثروبولوجيته ويقدم أسخف نمط من أنماط الانتماء.
وهنا يتحول القتل إلى موت بلا معنى أو بلا هدف، ومن ثم يصبح القتل عددياً لا يحمل بين جنباته أية رؤية. إن الاقتتال الطائفي ليس ممارسةً للعنف، فحتى العنف يحمل في داخله بعض الجماليات.
غياب الليفياثان السوري
أمام هذا الفائض من القتل، يقترح هوبز حلاً من الخارج، أي ينتج هوبز مصدراً خارجياً هو بمثابة “الأنا القاهرة”، أو كما يسميه الفيلسوف الفرنسي جاك لاكان “الآخر الكبير”، الذي يستطيع أن يضبط هذه الطوائف بما تمتلكه من قوة عنيفة وشرعية قادرة على ضبط الهويات.
ما نشاهده داخل سوريا الجديدة من احتكار حمل السلاح وضبط الجماعات المسلحة وتوحيد الجيش هي كلها تنويعات على مقترح هوبز، والذي سميناه “ابتزاز الجماعة”. ولكن ما نفتقده في الحالة السورية هو العامل السايكولوجي، وهو ما ينبهنا إليه هوبز: أن مفهوم بناء الدولة يبدأ كحالة سايكولوجية.
نحو تعديل الشعور الاجتماعي
ما يتطلبه الوضع السوري ليس إنتاج برامج سياسية أو إدارية، بل إعادة بناء الهيكلية الاجتماعية، بمعنى آخر تعديل الشعور الاجتماعي وإنتاج الثقة بين المجتمعات من خلال طرح سيسيولوجيا مغايرة.
السؤال الآن: هل يمكن لسوريا أن تنتج “ليفياثان” خاصاً بها؟ المشكلة لا تكمن في طرح الليفياثان، بل في أن أي مغامرة في إنتاج ليفياثان جديد قد لا تخرج عن مغامرة إعادة إنتاج النظام السابق.
اقرا أيضا
لقاء مرتقب يجمع قائد سوريا الديمقراطية وأحمد الشرع..هذا ما سيناقشوه