محمد أرسلان علي
بعد قرنٍ من الزمن لا زال العراق يعيش في دوامة المآسي والتراجيديا التي حلَّت عليه جراء تقطيع أوصاله بعقليات لم تفكر يوماً إلا بمصالحها القبائلية والعشائرية والقومجية الضيقة على حساب المصلحة العامة للوطن. إذ، قِلّة من الشعوب التي تقرأ تاريخها لتستنبط منه الدروس والعبر لرسم ملامح المستقبل الذي يحتضن الكل ويواكب التطور الإنساني في كل المجالات. قراءة التاريخ بحد ذاته يحتاج لشخوص مفعمة بحب مجتمعاتها ومؤمنة بولائها الانساني ومتصالحة مع ماضيها وواثقة من إرادة شعوبها وعاشقة للحياة الكريمة. لكن أين نحن من أحفاد السومريين الآن ويهم ينهشون في أجساد بعضهم البعض على حساب المحبة والايمان والثقة للوطن. الكل يتهم الكل والكل ينحر ويهجّر الكل والكل يقتل الكل، فلسفة ليس لها أي معنى سوى البحث عن الموت بأي شكل كان ولو كان بيد أخيه الانسان، وكأن مأساة هابيل وقابيل لا زالت مستمرة حتى يومنا هذا بألف شكل وشكل.
العراق ولعنة بابل
العراق الذي لا زال يعيش “لعنة بابل” بكل تفاصيلها والتي أدخلته عنق الزجاجة ما زال يصرخ وينادي شعوبه كي يخرجوه من هذا المستنقع الطائفي والمذهبي والقوموي الذي يعيشه منذ زمن طويل. العراق الذي كان جزءاً مهماً من جغرافية ميزوبوتاميا والتي كانت تُعد مهد البشرية والحضارة الإنسانية والتي انبثق من هذه الجغرافيا الحرف الأول والعلوم الأولى والمدنية الأولى عبر تاريخ التطور الإنساني. هذا العراق بات يعيش الاغتراب عن الذات بعد أن تخلى عنه أحفاده الذين راحوا يتقاتلون بين بعضهم البعض على مقدسات صنعوها بأيديهم من قبيل (التعصب القومجي والتطرف الطائفي والمذهبي والعصبوية القبائلية)، وكل ذلك تحت مسمى الدولة العراقية التي ولدت بعملية قيصرية بمبضع سايكس بيكو. هذه الولادة غير الطبيعية للدولة العراقية والتي لم تكن في وقتها جعلت من هذا الوليد يعاني الترهل والشيخوخة والأمراض منذ بداياته وحتى الآن.
قرنٌ مرّ على الولادة القيصرية للعراق ولا زال أحفاده يبحثون خارج الحدود السياسية للدولة الهشّة عن حلٍ للمعضلات التي يعيشها وطنهم، ولا زالوا يقترفون الذنب تلو الآخر ويرى كل طرف أنه على حق وأنه الوارث الوحيد والحقيقي للوطن المريض بالأساس، ويسعى للاستحواذ عليه دون تقديم أي علاج لِكَمْ المشاكل التي يعانيها هذا الوطن.
من خلال هذا الواقع المؤلم سعى البعض من الذين يفكرون بشكل مغاير تماماً عمّا هو مألوف راحوا يبحثون فيما بينهم عن حلول موضوعية لما تعانيه مجتمعاتهم من تشتت واقتتال وفرقة. من خلال العودة لدراسة التاريخ بعيون متعبة تبحث عن بصيص أملٍ مخفي في ذاك التاريخ علّهم يجوا بين ثناياه حلولاً وأساليب كان الأجداد يستخدمونها للعيش المشترك والجمعي الذي أفضى لهذا التنوع الكبير.
وفي بداية شهر ديسمبر من هذا العام اجتمع لفيف من مكونات وشعوب العراق بمختلف قومياتهم وطوائفهم، في بغداد من أجل إطلاق منصة للحوار الكردي –العربي وذلك من خلال عقد مؤتمر موسع تمت فيه مناقشة الكثير من المواضيع التي تهم الشأن العراقي ككل. انعقاد هذا المؤتمر وفي هذه المرحلة الحساسة والتاريخية التي يعيشها العراق يُعتبر بِحدِ ذاتها تفكير خارج الصندوق وعمل ترفع القبعة لكل الذين عملوا على إنجاحه. خاصة أن العراق ما بعد الانتخابات والتي جرت قبل ثلاثة أشهر والتي لم يعلن عن نتائجها، يعيش حالة من التوتر الداخلي نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية والتي تعمل كل منها على إعلان النجاح والنصر الانتخابي على حساب الطرف الآخر.
أوراق عديدة قدمت من قِبل أشخاص حملوا همّ الوطن والشعوب والمجتمعات على عاتقهم وهم متجهين لمكان كان يوماً ما دار السلام والعدالة –بغداد – ربما يكون بمقدورهم اشعال فتيل من الأمل في فترة حالكة يصرخ فيها الكل من دون أن يستمعوا لبعضهم البعض.
القضية الكردية في مناهج الانظمة الحاكمة في العراق
ففقي ورقة قدمت والتي كانت عبارة عن قراءة موضوعية لتاريخ العراق والولادة القيصرية لهذه الدولة التي لا زالت تعاني تداعيات تلك الولادة غير الطبيعية رغم كل المحاولات لجعل الولادة طبيعية. وتحت عنوان “القضية الكردية في مناهج الانظمة الحاكمة في العراق 1921-1975)، في هذه الورقة تم الكشف عن الألاعيب التي تمت في فترة الحرب العالمية الأولى على الشعبين العربي والكردي وباقي المكونات في العراق من خلال الوعود التي أعطاها البريطانيون لهم بتشكيل وطن قومي لهم إن هم ساعدوهم في التخلص من العثمانيين.
والسؤال الهام الذي يطرح نفسه هنا هل كان الكرد خاضعين بشكل مباشر للدولة العثمانية؟ بحكم الواقع المعاش في هذه الجغرافيا التي تؤكد بالنفي، حيث شكل الكرد الكثير من الإمارات شبه المستقلة والتي كانت مرتبطة بالدولة العثمانية إدارياً بشكل من الاشكال. فمثلاً إمارة بادينان التي يعود تاريخها الى أواخر العهد العباسي وإمارة سوران في القرن الثاني عشر والتي اتخذت من شقلاوة عاصمة حية لهم ووسعت من سيطرتها حتى شملت اربيل ودهوك وعقرة وحرير وزاخو وشنكال/سنجار، أما امارة بابان فلا تقل أهمية عن الامارات التي تم ذكرها والتي أسسها الكرد وجزء من اعمالهم بناء مدينة السليمانية عام 1871.
ويبدو ان الوضع لم يستمر طويلاً لاسيما بعد انهيار الدولة العثمانية في عام 1918 رغم أن الكرد شاركوا العثمانيين قتالهم للرد على الاحتلال البريطاني للعراق ولاسيما مشاركة طلائع الكرد بقيادة الشيخ محمود الحفيد لمقاومة البريطانيين في معركة الشعيبة في 12 نيسان 1915 رغم موقف الكرد المناوئ للدولة العثمانية، لكن شعورهم الديني دفعهم لرفع راية الدفاع عن العراق متناسين سياسة التفرقة العنصرية التي مورست بحق الشعوب المنضوية تحت لوائهم لعدة قرون.
وبعد انهيار الدولة العثمانية وسيطرة الجيش البريطاني على العراق أقامت حاميات عسكرية في (كركوك، التون كوبري، اربيل، زاخو، دهوك)، ولكن تلك الحاميات لم تشفع لهم بإعلان الكرد الانتفاضة في عام 1919 والتي قادها الشيخ محمود الحفيد البرزنجي بعد نكث بريطانيا للشيخ بإعلان قيام كيان كردي مستقل، للتتوج تلك الانتفاضة بثورة العشرين والتي كان للكرد دوراً مهماً فيها.
وفي ورقة أخرى مكملة لها حاول الدكتور علي مهدي التوقف ملياً على السياسة البريطانية التي تم تسييرها على الكرد والعرب بتحريضهم على الثورة على العثمانيين تحت مسمى إقامة الدولة القومية العربية والكردية.
وفي ورقة أخرى حملت عنوان “تأثير الدولة القومية على العلاقات العربية والكردية”، تم الكشف من خلالها على أن الشعبان العربي والكردي خضعا تحت نير حكم بداية الدولة القومية التركية بعد تنحية السلطان عبد الحميد على يد جماعة الاتحاد والترقي التي عملت على تتريك الشعوب التي كانت رازحة تحت النير العثماني والتي أثرت بالشرائح المتعلمة من خلال تنامي الشعور القومي، والذي سرعان ما تغير مجرى هذا الشعور عند تقسيم الكرد على عدة دول من جهة وتشكيل الدولة العراقية من جهة أخرى تحت الرعاية البريطانية، مما خلق موضوعياً الممهدات للعمل المشترك للشعبين العربي والكردي للتخلص من السلطات الحاكمة المؤتمرة بمصالح قوى الاستعمار، لكن سرعان ما خضعت هذه العلاقة بين الشعبين إلى تذبذبات متعرجة وانتقالات حادة بفعل النظرة الضيقة للحكام بعد الاستقلال والتي تتعارض مع الشعب العربي في التمتع بنظام ديمقراطي ويحقق النهضة الشاملة وطموحات الشعب الكردي في تقرير مصيره التي تخضع أحيانا لموازين القوى في المنطقة وليس في العراق وحده. وكان لتشكيل دولة العراق أثره المباشر على العلاقات العربية الكردية.
الكرد ومعاهدة سيفر
انتعشت أمال الكرد بشكل عام في كل مكان بما فيهم أمال كرد العراق لفترة من الزمن بعد التوقيع على معاهدة (سيفر) في العاشر من آب 1920 والتي تضمنت في المواد (62، 63، 64) حق الكرد في تشكيل دولتهم المستقلة وحق كرد ولاية الموصل في الانضمام إلى هذه الدولة المنتظرة، إلا أن رفض تركيا لهذه المعاهدة ورغبة بريطانية في وضع العراق بأكمله تحت الانتداب فضلا عن صراع المصالح بين الدول الكبرى، أبقت هذه المعاهدة حبراً على ورق، إلا أن المعاهدة كانت عاملاً في تنامي النشاط والوعي القوميين لدى الكرد، وقد تبددت تطلعات الكرد عند إبرام معاهدة (لوزان) عام 1923، حيث تم الاتفاق على تقسيم كردستان بين تركيا وإيران والعراق مع بعض التدخلات في كل من أذربيجان وسوريا.
قرن مضى على هذه الاتفاقيات وتشكيل الدولة القومجية والدينية في المنطقة ولم تنعم لا الدول ولا المجتمعات ولا الشعوب بالأمان ولا بالاستقرار. منذ اللحظة الأولى لتشكل هذه الكيانات المصطنعة والتي حولناها إلى كيانات طبيعية وكأنها من أصل المنطقة، دخلنا في نفق الانحدار نحو الدرك الأسف من الترابط المجتمعي وباتت الأنانية والفردانية ومصلحة السلطة المتحكمة هي الأساس على حساب المواطن والانتماء الوطني. أكثر من عشرون دولة ظهرت تباعاً حتى السبعينيات من القرن المنصرم. دول تحولت إلى حلم للشعوب المضطهدة على أنها الفردوس المفقود ويناضل من أجلها كل من يحن لهذا الفردوس. فردوس ولكنها في جهنم التهجير والاعتقالات والاحتفاء والصهر والمجازر بحق شعوب المنطقة الأصلاء. تحول فيها الكل إلى أدوات بيد الآخرين لزيادة هندسة المجتمعات على حساب الهويات الثقافية المختلفة.
عقد واحد فقط كان كافٍ ليرينا الحقيقة التي لم نرد معرفتها وكنا نهرب منها كي لا تنكشف عورات معرفتنا وفكرنا الهزيل الذي كنا نتشبث به.
ثورات الربيع العربي
عقد من الزمن كان تحت يافطة “ثورات الربيع العربي”، كشفت كم كنّا عراة في فردوس الدولة القومجية التي كانت تتغنى بها شعوب المنطقة والتي ضحت بالملايين من أبنائها لنيل حقوقهم واستقلالهم الهش والشكلي. أكثر من مائة عام ونحن نعيش حالة اللا حرب واللا سلام بين شعوب المنطقة، وكانت المقتلة مؤجلة فقط لحين موعدها التي نعيشها الآن بكل تفاصيلها المؤلمة. مفاهيم اختلطت علينا وبتنا لا نعلم معناها رغم أننا كتبنا مئات بل ربما آلاف الكتب عنها وتم تفسيرها بشكل مفصل، لكن العقد الأخير رأينا أن كل ما تم كتابته عن الحرب والسلام ليس له أي معنى ولم يكن سوى خدعة كنا نعيشها ونحن نجلس على أرجوحة الوطن والانتماء والوهم.
الحرب والسلام كانت ورقة أخرى عالجت فيها الكثير من النقاط المعروفة والمبهمة بنفس الوقت وكأننا نتكلم عن شيء نحلم في العيش فيه ولكنه بعيد المنال. مفهوم الحرب والسلام يمكن اعتباره من أقدم وأعقد القضايا على مدى التاريخ البشري والتي تمتد وترتبط بتاريخ البشرية من العصر الحجري الى السوبراني، ناهيكم عن ان المصطلح هو شامل لكل ما انتجته البشرية من افكار بهذا الخصوص، ولتجنب الدخول في المتاهات النظرية والفلسفية والتاريخية المعقدة، تم التركيز في الورقة على المفاهيم والآليات التي بلورها القانون الدولي والهيئات الدولية المعنية مثل الامم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الاحمر وغيرها من الهيئات التي تضم معظم دول العالم وشعوبها.
“الحروب لا تبني سوى القبور”، ربما تكون أفضل تعريف للحرب بكل معانيها الفلسفية والمعرفية واللغوية. وما أكثر القبور في مشرقنا الذي نتغنى به على أنه مهد الحضارة البشرية ولكنه بنفس الوقت منطقة القبور التي لا حدود لها. حيث أن آثار الحروب وأضرارها كبيرة جداً ومؤثرة على المجتمعات البشرية سلباً؛ حيث تُهدِر موارد الشعوب وتودي بحياة الكثير من الأشخاص دون سبب عقلاني، كما أنّها سبب لمنع تقدم البشرية على مختلف الأصعدة سواء اقتصادياً أو اجتماعياً أو غير ذلك. كما تزيد الحروب من معدل ارتكاب الجرائم، وتزيد من نسبة البطالة في المجتمع، وتُضعِف معنويات الأفراد، وتُضعِف الأخلاق والقيم الحسنة في المجتمع.
وربما مقولة “إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب”، التي اعتمدتها الأمم المتحدة في ديباجتها، وكانت هذه الكلمات هي الدافع الرئيسي لإنشاء الأمم المتحدة، التي عانى مؤسسوها من دمار عالمي وحروب بحلول عام 1945. ومنذ إنشاء الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1945 (تاريخ دخول ميثاقها حيز التنفيذ)، تمت دعوة الأمم المتحدة في كثير من الأحيان لمنع النزاعات من التصعيد إلى حرب، أو للمساعدة في استعادة السلام بعد اندلاع النزاع المسلح، وتعزيز السلام الدائم في المجتمعات الخارجة من الحروب.
تعرض مفهوم الحرب والسلام الى متغيرات كثيرة على مدى الزمن خصوصاً من زاوية القانون الدولي وتعريفات الامم المتحدة الرسمية. الحرب هي نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة حسب المصالح الذاتية لكل طرف. في القانون الدولي العام فإن التعريف التقليدي للحرب هو أنّها عبارة عن نزاع مسلّح بين فريقين من دولتين مختلفتين؛ إذ تُدافع فيها الدول المتحاربة عن مصالحها وأهدافها وحقوقها، ولا تكون الحرب إلّا بين الدول، أمّا النّزاع الذي يقع ين جماعتين من نفس الدولة، أو النزاع الذي تقوم به مجموعة من الأشخاص ضد دولة أجنبية ما، أو ثورة مجموعة من الأشخاص ضد حكومة الدولة التي يقيمون فيها، فلم يعد حرباً ولا علاقة للقانون الدولي به وإنما يخضع للقانون الجنائي.
ودائماً ما كان يشكل المدنيون الضحايا الرئيسيين لانتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها الدول وأطراف النزاع من غير الدول في النزاعات المسلحة المعاصرة. وما فتئت طبيعة النزاعات المسلحة المعاصرة تفرض تحديات حيال تطبيق القانون الدولي الإنساني واحترامه في عدة مجالات، وهناك حاجة لفهم تلك التحديات والاستجابة لها من أجل ضمان استمرار القانون الدولي الإنساني في أداء مهمته في توفير الحماية في حالات النزاع المسلح الدولي وغير الدولي.
اذ تكون الدول إما غير قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمدنيين في العديد من الحالات أو غير راغبة في ذلك. أحد التحديات التي برزت مؤخرًا أمام القانون الدولي الإنساني هو نزعة الدول إلى وسم جميع الأعمال القتالية التي تشنها الجماعات المسلحة من غير الدول ضدها، لا سيما في النزاعات المسلحة غير الدولية “بالإرهابية”. وينظر الآن إلى النزاع المسلح والأعمال الإرهابية على أنهما مرادفان تقريبًا، إن تسمية بعض الجماعات المسلحة من غير الدول “بالجماعات الإرهابية” له أثار ضمنية كبيرة على التعهدات الإنسانية وقد يعوق العمل الإنساني كذلك.
على نقيض العنف والحرب، يُعرف السلم بأنّه التّجانس المُجتمعي والتّكافؤ الاقتصاديّ والعدالة السياسيّة، وهو أيضاً اتّفاقٌ مُتعدّد بين الحكومات وغياب القتال والحروب، وقد يُعَبِّر عن حالةٍ من الاستقرار الداخليّ أو الهدوء في العلاقات الدولية.
“القوة من أجل السلام”، هذا المصطلح يعود إلى الإمبراطور الروماني هادريان (حكم بين عامي 117 و 138) ولكن هذا المفهوم قديم قدم التاريخ المسجل: يقول الإله المصري بتاح أن “قوة” رمسيس الثاني (1279-1213) ق.م. تسبب لكل دولة “أن تتوق للسلام”.
حيث أن المجتمعات البشرية تقوم على أساس التعددية الدينية والثقافية والسياسية، فمن الصعب وجود مجتمع يتشكل من عِرق واحد أو يدين بدين واحد، فهذا الامتزاج إما أن تحكمه إدارة سليمة تحفظ حقوق الأقلية دون تمييز، وبإعطائهم مساحة للتعبير عن معتقداتهم في أجواء من الاحترام والتسامح، وإما أن تحكمه أنظمة تخاف من التنوع، وتعمل على سحق الآخر المختلف وحرمانه من حقوقه وحرياته، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حروب أساسها الدين أو المذهب أو العرق، ينتج عنها دمار الدولة سياسياً واقتصادياً ونشوء أجيال محملة بالكراهية اتجاه الآخر تسعى للانتقام دوماً.
يعتبر بناء سلام دائم في المجتمعات التي مزقتها الحروب هو من بين الأكثر التحديات صعوبة تواجه السلم والأمن العالميين. ويتطلب بناء السلام استمرار الدعم الدولي للجهود الوطنية من خلال مجموعة واسعة من الأنشطة – كمراقبة وقف إطلاق النار، وتسريح وإعادة دمج المقاتلين، والمساعدة في عودة اللاجئين والمشردين؛ والمساعدة في تنظيم ومراقبة الانتخابات لتشكيل حكومة جديدة، ودعم إصلاح قطاع العدالة والأمن؛ وتعزيز حماية حقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة بعد وقوع الفظائع الماضية.
وللخروج من المأزق الذي تعيشه المنطقة لا بدّ من ثورة ذهنية بكل ما للكلمة من معنى لأنه من دونها ربما يكون من المستحيل إحداث أي تغيير في شكل ومعنى المنطقة والمجتمعات.
ومما لا شك فيه أن شعوب الشرق الاوسط عموماً تعاني من أزمة فكرية عويصة، بدرجة وصلت إلى مرحلة الدوامة الفكرية. يمكن القول بأن الأزمات الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية التي تعاني منها الشعوب نابعة من الازمة الفكرية (الذهنية). والأزمة الفكرية ليست نتاج الوضع الحالي فقط وإنما لها جذور تاريخية. ولا يمكن إنكار تأثيرات الحداثة الرأسمالية في القرنين الماضيين التي عمّقت الأزمة أكثر فأكثر، وأدت بالنتيجة إلى احتلال فكري من خلال العقلية الاستشراقية، وبهذا الصدد يقول المفكر السيد عبد الله اوجلان: “يُعَدُّ القرنان التاسع عشر والعشرون قرنَي غزوِ مجتمعِ الشرقِ الأوسطِ على يدِ الاستراتيجية الرأسمالية. هذه المرحلةُ التي اتَّجَهَت فيها الحداثةُ الرأسماليةُ نحو المنطقةِ بفُرسانِ المحشرِ الثلاث (الرأسمالية، الدولة القومية، والصناعوية)، إنما هي مرحلةُ تَعَمُّقِ الأزمةِ والانهيار”.
حيث أن مناطق الشرقَ الأوسطَ تعيشُ الآنَ في أخطر مراحلها، ذهنياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وصلت مشاكلُها إلى أزماتٍ عويصة، وأزماتُها إلى دوّامة جهنمية وفوضى كارثية، كطاحونة جبّارة تطحن الفردَ والمجتمع. طبعاً كلما استدامت الدوّامةُ والفوضى طحنتِ الوجودَ الإنساني حضارياً وثقافياً في هذه الجغرافية الملتهبة أكثر فأكثر.
ما يكمنُ في عينِ القضايا المُعاشة داخل مجتمعاتِ الشرقِ الأوسط، هو مزيدٌ من السلطةِ والدولة. فكلُّ قوةٍ ظهرَت إلى الوسطِ بغرضِ حلِّ القضايا العالقةِ على مرِّ سياقِ تاريخِ المدنية، لَم تتمكنْ من إيجادِ حلٍّ سوى التحصن بمزيدٍ من القوةِ ونفوذِ الدولة. وباتَ استخدامُ القوةِ في حلِّ القضايا من قِبَلِ كلِّ القوى، بدءاً من الإمبراطورِ الذي في القمةِ وحتى الزوجِ الذي في المنزل، بات العصا السحريةَ للتربعِ على عرشِ السلطةِ والتحولِ إلى دولة. وقد ابتكرَت المدنيةُ الغربيةُ الأشكالَ العصريةَ لهذه التقاليد. واعتَقَدَت بإمكانيةِ دمقرطةِ السلطةِ والدولةِ بصقلِهما بطلاءِ الديمقراطية، أو إنّ الليبراليةَ هي التي لاذت بهذا الزيفِ والرياء. هذا ولا تزالُ المساعي قائمةً على قدَمٍ وساق في الشرقِ الأوسطِ الراهن، من أجلِ حلِّ القضايا الأساسيةِ على خلفيةِ التحولِ إلى دولةٍ وسلطة.
قضية المرأة في الشرقِ الأوسط
ويأتي على رأس القضايا التي تعيشها المنطقة هي قضية المرأة. فقضية المرأة في مجتمعِ الشرقِ الأوسط مثلاً من أعقد وأعمق قضايا الاجتماعية في مجتمعات الشرق الاوسطية. وإنَّ تقييمَ القضايا التي تَحياها المرأةُ أولاً في المجتمعِ ضمن أبعادِها التاريخيةِ – الاجتماعيةِ يتحلى بالأهمية. فقضيةُ المرأةِ هي منبعُ كافةِ القضايا. ولدى إضافةِ القضايا الناجمةِ عن أجهزةِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليِّ الراهنِ أيضاً إلى تلك القضايا ذاتِ الجذورِ التاريخية، يغدو لا مَهرَبَ للمرأةِ من عيشِ حياةٍ يَسودُها الكابوسُ المُرعِبُ حقاً في المجتمعِ الشرقِ أوسطيّ. فأنْ تَكُونَ امرأةً ربما يعني أنْ تَكُونَ إنساناً في أحلَكِ الظروفِ وأَعسَرِها. ذلك أنَّ أَشَد درجاتِ القمعِ والاستغلالِ الفظِّ الذي يعانيه المجتمع، يتم تطبيقُها على جسدِ وكدحِ المرأة. وربما حانَ وقتُ تَخَلّي التعامُلِ الجنسويِّ المتصلبِ الذليلِ عن مكانه للحاجةِ إلى البحثِ عن صديقٍ ورفيق. ينبغي المعرفةَ أنه يستحيلُ عيشُ حياةٍ ثمينةٍ ذاتِ معنى، ما لَم يتحققْ عيشٌ سليمٌ مع المرأةِ ضمن المجتمع. علينا صياغةَ أقوالنا وتطويرَ ممارساتنا بالإدراكِ بأنّ الحياةَ الأثمنَ والأجملَ يمكنُ تحقيقُها مع المرأةِ الحرةِ المتمتعةِ تماماً بكرامتِها وعِزَّتِها. فإذا لم تهدف الثورة الذهنية الحياة الحرة والذي معيارها حرية المرأة، فأنها ستكون ثورة فاشلة وأنها تسير على درب الدوغمائية.
إن الثورة ببساطة تعني التغيير المستمر وإعادة البناء من الجديد، وبحد ذاتها ترتبط مباشرة بالحياة وصيرورتها، انها تعني الحياة بذاتها واعادة معنى للحياة التي فقدت معناها وصيرورتها، التي تتجسد في الحياة الحرة. لأن الثورة في أبسط معانيها؛ هي عملية إعادة المعنى إلى الحياة والانسان والمجتمع، وهي بداية لعملية نضالية من أجل حياة حرة، تفكير حر والسعي وراء الحقيقة. ولهذا بقدر ما تحمل الثورة حقيقة الحياة الحرة، فإنها بذلك القدر تنأى بنفسها عن الأوهام التي تحاول أن تحل محل الحياة الحقيقية. وبقدر ما تمثل الثورة من فكر تغيير الحياة، بنفس القدر تمثل فن إعادة بناء الحياة. الثورة ليست الرغبة بجعل الوضع الموجود مميتاً ودموياً، وإنما شعارها وجوهرها؛ هي خلق والاستمرار بالحياة الحرة.
فالثورةُ باختصار تعني إعادةَ اكتسابِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ والديمقراطيِّ لِماهياتِه تلك مجدَّداً وبمستوى أرقى، بعدما حَدَّ نظامُ المدنيةِ من مساحتِه وأعاقَ تطبيقَه على الدوام. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تجاوزنا لعصبيات القومية والدينية والمذهبية والنسوية والسلطوية والوصول الى حياة كريمة حرة وعادلة وتعايش ديمقراطي.
وربما يكون نموذج الحل الكونفدرالي الديمقراطي الذي لا يعطي مجال للعنف والانقسامات، طراز يعتمد على الطواعية. كما يوجد العديد من الأسباب التاريخية والاجتماعية التي تعطي المجال لأرضية صلبة لبناء الكونفدرالية الديمقراطية بقوة العملية الديمقراطية للشعب، وبهذا يمكن التخلص من الأنظمة اللا ديمقراطية والأوتوقراطية والثيوقراطية. والطراز التنظيمي للحل الكونفدرالي الديمقراطي هو الأنسب للتوافق مع الموزاييك الثقافي لدول الشرق الأوسط والتداخل اللغوي والديني الموجود فيه. وهذا الطراز هو القادر على حل المشاكل والقضايا ومعالجة الظواهر العديدة الموجودة في المنطقة.
وهكذا يصف السيد عبد الله أوجلان منظومة الكونفدرالية الديمقراطية من حيث جوهرها وهيكلية تنظيمها وتناسبها مع حقيقة الشرق الأوسط الموزائيكية ويقول: “إن الكونفدرالية الديمقراطية تمثل الحلَّ المناسبَ لشعوب الشرق أوسطية والعالم كافة، تعني تنظيم الأمة بدون دولة، وهي تنظيم الأقليات والثقافة والأديان وحتى تنظيم الجنس إلى جانب التنظيمات الأخرى، وهذا ما أصفه بالتنظيم الوطني الديمقراطي، بحيث تكون لكل قرية مجلس ديمقراطي. التاريخ مليء بالعديد من الأمثلة، كديمقراطية أثينا، والسومريين الذين امتلكوا تنظيم مشابه، وفي يومنا الراهن تبني أوروبا كونفدراليتها، والكونفدرالية الكردية تناسب الشرق الأوسط، والإسرائيليين والفلسطينيين يمكنهم تأسيس الكونفدرالية وبإمكان الاثنان والعشرون دولة عربية تأسيس كونفدرالية”.
إذاً، فإن مشروع الكونفدرالية الديمقراطية للشرق الأوسط مشروعٌ يستند إلى العقلية الديمقراطية، وتأخذ الحرية، العدالة، المساواة، التعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات والشعوب والأطياف وكافة المعتقدات، أساساً لبناء نظامه السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، البيئي والدفاعي. والأهم من كل ذلك هو أن الكونفدرالية الديمقراطية تتجاوز كل المفاهيم والأفكار الدوغمائية التسلطية الشمولية، وتتبنى الجدلية العلمية أساساً لها. فالديمقراطية بطبيعتها الديمومية تسود عبر منظومة فكرية منفتحة، فالكونفدرالية بجوهرها الديمقراطي تتصدى للذهنية الدوغمائية بكافة أشكالها وأنواعها، وفي نفس الوقت ترسخ الحرية والمساواة لكل معتقد يؤمن بالحرية والمساواة والعدالة والتعايش السلمي والحر.
إن عقد هذا المؤتمر وفي هذه الفترة في بغداد الذي تعاني الآهات والحسرات ولعنة بابل في نفس الوقت ربما كان الرد الأمثل لهذه الجغرافيا التي كانت يوماً ما مهد الحضارة البشرية. واستمرارية هذه المؤتمرات التي تبحث عن حلول للمشاكل والقضايا التي تعانيها المنطقة بشكل عام ربما يعتبر الرد الأمثل للتاريخ وبأن نكون الأحفاد الحقيقيين لهذه المنطقة التي لطالما كانت ولادة الحلول لأية مشاكل وقضايا تعاني منها. فبدلاً من البحث عن الحلول في الخارج ينبغي البدء من الداخل لأن هذه المنطقة والمجتمعات والثقافات تخبئ في داخلها الكثير من الأمل الذي تمنحه خلال عملية البحث عن تلك الحلول.
طرح مشروع الحوار العربي – الكردي الناجح كشعار للمؤتمر يعتبر بحد ذاته نجاح وخطوة سليمة نحو الخروج من حالة الاغتراب التي تعيشها المجتمعات وإعطاء الفرصة للنخب والمثقفين للبحث عن حلول لما تعانيه مجتمعاتهم. وفي ظل المئوية التي تعيشها المنطقة بشكل عام على تقسيمها لدول عديدة هشّة يدفعنا هذا إلى أن نفكر بصورة واقعية وحقيقية للبحث عن حوار بين الأخوة في الوطن. الجواب إن وجود الدستور وضمان حقوق الجميع بدون استثناء سيخلق لنا ايمان حقيقي يعزز الهوية الوطنية ويبدد مخاوف الاخرين من هضم الحقوق والتهميش الذي عانوه منذ سنوات طويلة.
فلا بديل عن التكاتف والتلاحم ما بين شعوب المنطقة وخاصة العرب والكرد منهم نظراً للعلاقات والتلاقح الثقافي والتاريخي بينهم، وأن الأمن الوجودي لِكِلا الشعبين مرتبط بشكل وثيق مع بعضه البعض ولا يمكن لأي من الشعبين أن يكون من دون وجود الآخر، ولا يمكن لأي من الشعبين أن يعيش الحرية والكرامة من دون الآخر بنفس الوقت. وهذا ما يحتم على كلا الشعبين أن يتوحدا أمام الهجمات التي تتعرض لها المنطقة لإخراجها من حالة الفوضى المستشرية فيها.
إقرا أيضا
سر عداء تركيا والنظام والمعارضة والمجلس الوطني الكردي لتجربة الإدارة الذاتية ؟
في ذكرى تأسيس العمال الكردستاني..القاهرة تحتفل بـ العلاقات العربية الكردية
تاريخ من الحقوق الضائعة..متى يُكفر النظام العالمي عن جرائمه بحق الشعب الكردي؟
بعد قرنٍ من الزمن لا زال العراق يعيش في دوامة المآسي والتراجيديا التي حلَّت عليه جراء تقطيع أوصاله بعقليات لم تفكر يوماً إلا بمصالحها القبائلية والعشائرية والقومجية الضيقة على حساب المصلحة العامة للوطن. إذ، قِلّة من الشعوب التي تقرأ تاريخها لتستنبط منه الدروس والعبر لرسم ملامح المستقبل الذي يحتضن الكل ويواكب التطور الإنساني في كل المجالات. قراءة التاريخ بحد ذاته يحتاج لشخوص مفعمة بحب مجتمعاتها ومؤمنة بولائها الانساني ومتصالحة مع ماضيها وواثقة من إرادة شعوبها وعاشقة للحياة الكريمة. لكن أين نحن من أحفاد السومريين الآن ويهم ينهشون في أجساد بعضهم البعض على حساب المحبة والايمان والثقة للوطن. الكل يتهم الكل والكل ينحر ويهجّر الكل والكل يقتل الكل، فلسفة ليس لها أي معنى سوى البحث عن الموت بأي شكل كان ولو كان بيد أخيه الانسان، وكأن مأساة هابيل وقابيل لا زالت مستمرة حتى يومنا هذا بألف شكل وشكل.
العراق الذي لا زال يعيش “لعنة بابل” بكل تفاصيلها والتي أدخلته عنق الزجاجة ما زال يصرخ وينادي شعوبه كي يخرجوه من هذا المستنقع الطائفي والمذهبي والقوموي الذي يعيشه منذ زمن طويل. العراق الذي كان جزءاً مهماً من جغرافية ميزوبوتاميا والتي كانت تُعد مهد البشرية والحضارة الإنسانية والتي انبثق من هذه الجغرافيا الحرف الأول والعلوم الأولى والمدنية الأولى عبر تاريخ التطور الإنساني. هذا العراق بات يعيش الاغتراب عن الذات بعد أن تخلى عنه أحفاده الذين راحوا يتقاتلون بين بعضهم البعض على مقدسات صنعوها بأيديهم من قبيل (التعصب القومجي والتطرف الطائفي والمذهبي والعصبوية القبائلية)، وكل ذلك تحت مسمى الدولة العراقية التي ولدت بعملية قيصرية بمبضع سايكس بيكو. هذه الولادة غير الطبيعية للدولة العراقية والتي لم تكن في وقتها جعلت من هذا الوليد يعاني الترهل والشيخوخة والأمراض منذ بداياته وحتى الآن.
قرنٌ مرّ على الولادة القيصرية للعراق ولا زال أحفاده يبحثون خارج الحدود السياسية للدولة الهشّة عن حلٍ للمعضلات التي يعيشها وطنهم، ولا زالوا يقترفون الذنب تلو الآخر ويرى كل طرف أنه على حق وأنه الوارث الوحيد والحقيقي للوطن المريض بالأساس، ويسعى للاستحواذ عليه دون تقديم أي علاج لِكَمْ المشاكل التي يعانيها هذا الوطن.
من خلال هذا الواقع المؤلم سعى البعض من الذين يفكرون بشكل مغاير تماماً عمّا هو مألوف راحوا يبحثون فيما بينهم عن حلول موضوعية لما تعانيه مجتمعاتهم من تشتت واقتتال وفرقة. من خلال العودة لدراسة التاريخ بعيون متعبة تبحث عن بصيص أملٍ مخفي في ذاك التاريخ علّهم يجوا بين ثناياه حلولاً وأساليب كان الأجداد يستخدمونها للعيش المشترك والجمعي الذي أفضى لهذا التنوع الكبير.
وفي بداية شهر ديسمبر من هذا العام اجتمع لفيف من مكونات وشعوب العراق بمختلف قومياتهم وطوائفهم، في بغداد من أجل إطلاق منصة للحوار الكردي –العربي وذلك من خلال عقد مؤتمر موسع تمت فيه مناقشة الكثير من المواضيع التي تهم الشأن العراقي ككل. انعقاد هذا المؤتمر وفي هذه المرحلة الحساسة والتاريخية التي يعيشها العراق يُعتبر بِحدِ ذاتها تفكير خارج الصندوق وعمل ترفع القبعة لكل الذين عملوا على إنجاحه. خاصة أن العراق ما بعد الانتخابات والتي جرت قبل ثلاثة أشهر والتي لم يعلن عن نتائجها، يعيش حالة من التوتر الداخلي نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية والتي تعمل كل منها على إعلان النجاح والنصر الانتخابي على حساب الطرف الآخر.
أوراق عديدة قدمت من قِبل أشخاص حملوا همّ الوطن والشعوب والمجتمعات على عاتقهم وهم متجهين لمكان كان يوماً ما دار السلام والعدالة –بغداد – ربما يكون بمقدورهم اشعال فتيل من الأمل في فترة حالكة يصرخ فيها الكل من دون أن يستمعوا لبعضهم البعض.
ففقي ورقة قدمت والتي كانت عبارة عن قراءة موضوعية لتاريخ العراق والولادة القيصرية لهذه الدولة التي لا زالت تعاني تداعيات تلك الولادة غير الطبيعية رغم كل المحاولات لجعل الولادة طبيعية. وتحت عنوان “القضية الكردية في مناهج الانظمة الحاكمة في العراق 1921-1975)، في هذه الورقة تم الكشف عن الألاعيب التي تمت في فترة الحرب العالمية الأولى على الشعبين العربي والكردي وباقي المكونات في العراق من خلال الوعود التي أعطاها البريطانيون لهم بتشكيل وطن قومي لهم إن هم ساعدوهم في التخلص من العثمانيين.
والسؤال الهام الذي يطرح نفسه هنا هل كان الكرد خاضعين بشكل مباشر للدولة العثمانية؟ بحكم الواقع المعاش في هذه الجغرافيا التي تؤكد بالنفي، حيث شكل الكرد الكثير من الإمارات شبه المستقلة والتي كانت مرتبطة بالدولة العثمانية إدارياً بشكل من الاشكال. فمثلاً إمارة بادينان التي يعود تاريخها الى أواخر العهد العباسي وإمارة سوران في القرن الثاني عشر والتي اتخذت من شقلاوة عاصمة حية لهم ووسعت من سيطرتها حتى شملت اربيل ودهوك وعقرة وحرير وزاخو وشنكال/سنجار، أما امارة بابان فلا تقل أهمية عن الامارات التي تم ذكرها والتي أسسها الكرد وجزء من اعمالهم بناء مدينة السليمانية عام 1871.
ويبدو ان الوضع لم يستمر طويلاً لاسيما بعد انهيار الدولة العثمانية في عام 1918 رغم أن الكرد شاركوا العثمانيين قتالهم للرد على الاحتلال البريطاني للعراق ولاسيما مشاركة طلائع الكرد بقيادة الشيخ محمود الحفيد لمقاومة البريطانيين في معركة الشعيبة في 12 نيسان 1915 رغم موقف الكرد المناوئ للدولة العثمانية، لكن شعورهم الديني دفعهم لرفع راية الدفاع عن العراق متناسين سياسة التفرقة العنصرية التي مورست بحق الشعوب المنضوية تحت لوائهم لعدة قرون.
وبعد انهيار الدولة العثمانية وسيطرة الجيش البريطاني على العراق أقامت حاميات عسكرية في (كركوك، التون كوبري، اربيل، زاخو، دهوك)، ولكن تلك الحاميات لم تشفع لهم بإعلان الكرد الانتفاضة في عام 1919 والتي قادها الشيخ محمود الحفيد البرزنجي بعد نكث بريطانيا للشيخ بإعلان قيام كيان كردي مستقل، للتتوج تلك الانتفاضة بثورة العشرين والتي كان للكرد دوراً مهماً فيها.
وفي ورقة أخرى مكملة لها حاول الدكتور علي مهدي التوقف ملياً على السياسة البريطانية التي تم تسييرها على الكرد والعرب بتحريضهم على الثورة على العثمانيين تحت مسمى إقامة الدولة القومية العربية والكردية.
وفي ورقة أخرى حملت عنوان “تأثير الدولة القومية على العلاقات العربية والكردية”، تم الكشف من خلالها على أن الشعبان العربي والكردي خضعا تحت نير حكم بداية الدولة القومية التركية بعد تنحية السلطان عبد الحميد على يد جماعة الاتحاد والترقي التي عملت على تتريك الشعوب التي كانت رازحة تحت النير العثماني والتي أثرت بالشرائح المتعلمة من خلال تنامي الشعور القومي، والذي سرعان ما تغير مجرى هذا الشعور عند تقسيم الكرد على عدة دول من جهة وتشكيل الدولة العراقية من جهة أخرى تحت الرعاية البريطانية، مما خلق موضوعياً الممهدات للعمل المشترك للشعبين العربي والكردي للتخلص من السلطات الحاكمة المؤتمرة بمصالح قوى الاستعمار، لكن سرعان ما خضعت هذه العلاقة بين الشعبين إلى تذبذبات متعرجة وانتقالات حادة بفعل النظرة الضيقة للحكام بعد الاستقلال والتي تتعارض مع الشعب العربي في التمتع بنظام ديمقراطي ويحقق النهضة الشاملة وطموحات الشعب الكردي في تقرير مصيره التي تخضع أحيانا لموازين القوى في المنطقة وليس في العراق وحده. وكان لتشكيل دولة العراق أثره المباشر على العلاقات العربية الكردية.
انتعشت أمال الكرد بشكل عام في كل مكان بما فيهم أمال كرد العراق لفترة من الزمن بعد التوقيع على معاهدة (سيفر) في العاشر من آب 1920 والتي تضمنت في المواد (62، 63، 64) حق الكرد في تشكيل دولتهم المستقلة وحق كرد ولاية الموصل في الانضمام إلى هذه الدولة المنتظرة، إلا أن رفض تركيا لهذه المعاهدة ورغبة بريطانية في وضع العراق بأكمله تحت الانتداب فضلا عن صراع المصالح بين الدول الكبرى، أبقت هذه المعاهدة حبراً على ورق، إلا أن المعاهدة كانت عاملاً في تنامي النشاط والوعي القوميين لدى الكرد، وقد تبددت تطلعات الكرد عند إبرام معاهدة (لوزان) عام 1923، حيث تم الاتفاق على تقسيم كردستان بين تركيا وإيران والعراق مع بعض التدخلات في كل من أذربيجان وسوريا.
قرن مضى على هذه الاتفاقيات وتشكيل الدولة القومجية والدينية في المنطقة ولم تنعم لا الدول ولا المجتمعات ولا الشعوب بالأمان ولا بالاستقرار. منذ اللحظة الأولى لتشكل هذه الكيانات المصطنعة والتي حولناها إلى كيانات طبيعية وكأنها من أصل المنطقة، دخلنا في نفق الانحدار نحو الدرك الأسف من الترابط المجتمعي وباتت الأنانية والفردانية ومصلحة السلطة المتحكمة هي الأساس على حساب المواطن والانتماء الوطني. أكثر من عشرون دولة ظهرت تباعاً حتى السبعينيات من القرن المنصرم. دول تحولت إلى حلم للشعوب المضطهدة على أنها الفردوس المفقود ويناضل من أجلها كل من يحن لهذا الفردوس. فردوس ولكنها في جهنم التهجير والاعتقالات والاحتفاء والصهر والمجازر بحق شعوب المنطقة الأصلاء. تحول فيها الكل إلى أدوات بيد الآخرين لزيادة هندسة المجتمعات على حساب الهويات الثقافية المختلفة.
عقد واحد فقط كان كافٍ ليرينا الحقيقة التي لم نرد معرفتها وكنا نهرب منها كي لا تنكشف عورات معرفتنا وفكرنا الهزيل الذي كنا نتشبث به.
عقد من الزمن كان تحت يافطة “ثورات الربيع العربي”، كشفت كم كنّا عراة في فردوس الدولة القومجية التي كانت تتغنى بها شعوب المنطقة والتي ضحت بالملايين من أبنائها لنيل حقوقهم واستقلالهم الهش والشكلي. أكثر من مائة عام ونحن نعيش حالة اللا حرب واللا سلام بين شعوب المنطقة، وكانت المقتلة مؤجلة فقط لحين موعدها التي نعيشها الآن بكل تفاصيلها المؤلمة. مفاهيم اختلطت علينا وبتنا لا نعلم معناها رغم أننا كتبنا مئات بل ربما آلاف الكتب عنها وتم تفسيرها بشكل مفصل، لكن العقد الأخير رأينا أن كل ما تم كتابته عن الحرب والسلام ليس له أي معنى ولم يكن سوى خدعة كنا نعيشها ونحن نجلس على أرجوحة الوطن والانتماء والوهم.
الحرب والسلام كانت ورقة أخرى عالجت فيها الكثير من النقاط المعروفة والمبهمة بنفس الوقت وكأننا نتكلم عن شيء نحلم في العيش فيه ولكنه بعيد المنال. مفهوم الحرب والسلام يمكن اعتباره من أقدم وأعقد القضايا على مدى التاريخ البشري والتي تمتد وترتبط بتاريخ البشرية من العصر الحجري الى السوبراني، ناهيكم عن ان المصطلح هو شامل لكل ما انتجته البشرية من افكار بهذا الخصوص، ولتجنب الدخول في المتاهات النظرية والفلسفية والتاريخية المعقدة، تم التركيز في الورقة على المفاهيم والآليات التي بلورها القانون الدولي والهيئات الدولية المعنية مثل الامم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الاحمر وغيرها من الهيئات التي تضم معظم دول العالم وشعوبها.
“الحروب لا تبني سوى القبور”، ربما تكون أفضل تعريف للحرب بكل معانيها الفلسفية والمعرفية واللغوية. وما أكثر القبور في مشرقنا الذي نتغنى به على أنه مهد الحضارة البشرية ولكنه بنفس الوقت منطقة القبور التي لا حدود لها. حيث أن آثار الحروب وأضرارها كبيرة جداً ومؤثرة على المجتمعات البشرية سلباً؛ حيث تُهدِر موارد الشعوب وتودي بحياة الكثير من الأشخاص دون سبب عقلاني، كما أنّها سبب لمنع تقدم البشرية على مختلف الأصعدة سواء اقتصادياً أو اجتماعياً أو غير ذلك. كما تزيد الحروب من معدل ارتكاب الجرائم، وتزيد من نسبة البطالة في المجتمع، وتُضعِف معنويات الأفراد، وتُضعِف الأخلاق والقيم الحسنة في المجتمع.
وربما مقولة “إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب”، التي اعتمدتها الأمم المتحدة في ديباجتها، وكانت هذه الكلمات هي الدافع الرئيسي لإنشاء الأمم المتحدة، التي عانى مؤسسوها من دمار عالمي وحروب بحلول عام 1945. ومنذ إنشاء الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1945 (تاريخ دخول ميثاقها حيز التنفيذ)، تمت دعوة الأمم المتحدة في كثير من الأحيان لمنع النزاعات من التصعيد إلى حرب، أو للمساعدة في استعادة السلام بعد اندلاع النزاع المسلح، وتعزيز السلام الدائم في المجتمعات الخارجة من الحروب.
تعرض مفهوم الحرب والسلام الى متغيرات كثيرة على مدى الزمن خصوصاً من زاوية القانون الدولي وتعريفات الامم المتحدة الرسمية. الحرب هي نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة حسب المصالح الذاتية لكل طرف. في القانون الدولي العام فإن التعريف التقليدي للحرب هو أنّها عبارة عن نزاع مسلّح بين فريقين من دولتين مختلفتين؛ إذ تُدافع فيها الدول المتحاربة عن مصالحها وأهدافها وحقوقها، ولا تكون الحرب إلّا بين الدول، أمّا النّزاع الذي يقع ين جماعتين من نفس الدولة، أو النزاع الذي تقوم به مجموعة من الأشخاص ضد دولة أجنبية ما، أو ثورة مجموعة من الأشخاص ضد حكومة الدولة التي يقيمون فيها، فلم يعد حرباً ولا علاقة للقانون الدولي به وإنما يخضع للقانون الجنائي.
ودائماً ما كان يشكل المدنيون الضحايا الرئيسيين لانتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها الدول وأطراف النزاع من غير الدول في النزاعات المسلحة المعاصرة. وما فتئت طبيعة النزاعات المسلحة المعاصرة تفرض تحديات حيال تطبيق القانون الدولي الإنساني واحترامه في عدة مجالات، وهناك حاجة لفهم تلك التحديات والاستجابة لها من أجل ضمان استمرار القانون الدولي الإنساني في أداء مهمته في توفير الحماية في حالات النزاع المسلح الدولي وغير الدولي.
اذ تكون الدول إما غير قادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للمدنيين في العديد من الحالات أو غير راغبة في ذلك. أحد التحديات التي برزت مؤخرًا أمام القانون الدولي الإنساني هو نزعة الدول إلى وسم جميع الأعمال القتالية التي تشنها الجماعات المسلحة من غير الدول ضدها، لا سيما في النزاعات المسلحة غير الدولية “بالإرهابية”. وينظر الآن إلى النزاع المسلح والأعمال الإرهابية على أنهما مرادفان تقريبًا، إن تسمية بعض الجماعات المسلحة من غير الدول “بالجماعات الإرهابية” له أثار ضمنية كبيرة على التعهدات الإنسانية وقد يعوق العمل الإنساني كذلك.
على نقيض العنف والحرب، يُعرف السلم بأنّه التّجانس المُجتمعي والتّكافؤ الاقتصاديّ والعدالة السياسيّة، وهو أيضاً اتّفاقٌ مُتعدّد بين الحكومات وغياب القتال والحروب، وقد يُعَبِّر عن حالةٍ من الاستقرار الداخليّ أو الهدوء في العلاقات الدولية.
“القوة من أجل السلام”، هذا المصطلح يعود إلى الإمبراطور الروماني هادريان (حكم بين عامي 117 و 138) ولكن هذا المفهوم قديم قدم التاريخ المسجل: يقول الإله المصري بتاح أن “قوة” رمسيس الثاني (1279-1213) ق.م. تسبب لكل دولة “أن تتوق للسلام”.
حيث أن المجتمعات البشرية تقوم على أساس التعددية الدينية والثقافية والسياسية، فمن الصعب وجود مجتمع يتشكل من عِرق واحد أو يدين بدين واحد، فهذا الامتزاج إما أن تحكمه إدارة سليمة تحفظ حقوق الأقلية دون تمييز، وبإعطائهم مساحة للتعبير عن معتقداتهم في أجواء من الاحترام والتسامح، وإما أن تحكمه أنظمة تخاف من التنوع، وتعمل على سحق الآخر المختلف وحرمانه من حقوقه وحرياته، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حروب أساسها الدين أو المذهب أو العرق، ينتج عنها دمار الدولة سياسياً واقتصادياً ونشوء أجيال محملة بالكراهية اتجاه الآخر تسعى للانتقام دوماً.
يعتبر بناء سلام دائم في المجتمعات التي مزقتها الحروب هو من بين الأكثر التحديات صعوبة تواجه السلم والأمن العالميين. ويتطلب بناء السلام استمرار الدعم الدولي للجهود الوطنية من خلال مجموعة واسعة من الأنشطة – كمراقبة وقف إطلاق النار، وتسريح وإعادة دمج المقاتلين، والمساعدة في عودة اللاجئين والمشردين؛ والمساعدة في تنظيم ومراقبة الانتخابات لتشكيل حكومة جديدة، ودعم إصلاح قطاع العدالة والأمن؛ وتعزيز حماية حقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة بعد وقوع الفظائع الماضية.
وللخروج من المأزق الذي تعيشه المنطقة لا بدّ من ثورة ذهنية بكل ما للكلمة من معنى لأنه من دونها ربما يكون من المستحيل إحداث أي تغيير في شكل ومعنى المنطقة والمجتمعات.
ومما لا شك فيه أن شعوب الشرق الاوسط عموماً تعاني من أزمة فكرية عويصة، بدرجة وصلت إلى مرحلة الدوامة الفكرية. يمكن القول بأن الأزمات الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والسياسية التي تعاني منها الشعوب نابعة من الازمة الفكرية (الذهنية). والأزمة الفكرية ليست نتاج الوضع الحالي فقط وإنما لها جذور تاريخية. ولا يمكن إنكار تأثيرات الحداثة الرأسمالية في القرنين الماضيين التي عمّقت الأزمة أكثر فأكثر، وأدت بالنتيجة إلى احتلال فكري من خلال العقلية الاستشراقية، وبهذا الصدد يقول المفكر السيد عبد الله اوجلان: “يُعَدُّ القرنان التاسع عشر والعشرون قرنَي غزوِ مجتمعِ الشرقِ الأوسطِ على يدِ الاستراتيجية الرأسمالية. هذه المرحلةُ التي اتَّجَهَت فيها الحداثةُ الرأسماليةُ نحو المنطقةِ بفُرسانِ المحشرِ الثلاث (الرأسمالية، الدولة القومية، والصناعوية)، إنما هي مرحلةُ تَعَمُّقِ الأزمةِ والانهيار”.
حيث أن مناطق الشرقَ الأوسطَ تعيشُ الآنَ في أخطر مراحلها، ذهنياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. وصلت مشاكلُها إلى أزماتٍ عويصة، وأزماتُها إلى دوّامة جهنمية وفوضى كارثية، كطاحونة جبّارة تطحن الفردَ والمجتمع. طبعاً كلما استدامت الدوّامةُ والفوضى طحنتِ الوجودَ الإنساني حضارياً وثقافياً في هذه الجغرافية الملتهبة أكثر فأكثر.
ما يكمنُ في عينِ القضايا المُعاشة داخل مجتمعاتِ الشرقِ الأوسط، هو مزيدٌ من السلطةِ والدولة. فكلُّ قوةٍ ظهرَت إلى الوسطِ بغرضِ حلِّ القضايا العالقةِ على مرِّ سياقِ تاريخِ المدنية، لَم تتمكنْ من إيجادِ حلٍّ سوى التحصن بمزيدٍ من القوةِ ونفوذِ الدولة. وباتَ استخدامُ القوةِ في حلِّ القضايا من قِبَلِ كلِّ القوى، بدءاً من الإمبراطورِ الذي في القمةِ وحتى الزوجِ الذي في المنزل، بات العصا السحريةَ للتربعِ على عرشِ السلطةِ والتحولِ إلى دولة. وقد ابتكرَت المدنيةُ الغربيةُ الأشكالَ العصريةَ لهذه التقاليد. واعتَقَدَت بإمكانيةِ دمقرطةِ السلطةِ والدولةِ بصقلِهما بطلاءِ الديمقراطية، أو إنّ الليبراليةَ هي التي لاذت بهذا الزيفِ والرياء. هذا ولا تزالُ المساعي قائمةً على قدَمٍ وساق في الشرقِ الأوسطِ الراهن، من أجلِ حلِّ القضايا الأساسيةِ على خلفيةِ التحولِ إلى دولةٍ وسلطة.
ويأتي على رأس القضايا التي تعيشها المنطقة هي قضية المرأة. فقضية المرأة في مجتمعِ الشرقِ الأوسط مثلاً من أعقد وأعمق قضايا الاجتماعية في مجتمعات الشرق الاوسطية. وإنَّ تقييمَ القضايا التي تَحياها المرأةُ أولاً في المجتمعِ ضمن أبعادِها التاريخيةِ – الاجتماعيةِ يتحلى بالأهمية. فقضيةُ المرأةِ هي منبعُ كافةِ القضايا. ولدى إضافةِ القضايا الناجمةِ عن أجهزةِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليِّ الراهنِ أيضاً إلى تلك القضايا ذاتِ الجذورِ التاريخية، يغدو لا مَهرَبَ للمرأةِ من عيشِ حياةٍ يَسودُها الكابوسُ المُرعِبُ حقاً في المجتمعِ الشرقِ أوسطيّ. فأنْ تَكُونَ امرأةً ربما يعني أنْ تَكُونَ إنساناً في أحلَكِ الظروفِ وأَعسَرِها. ذلك أنَّ أَشَد درجاتِ القمعِ والاستغلالِ الفظِّ الذي يعانيه المجتمع، يتم تطبيقُها على جسدِ وكدحِ المرأة. وربما حانَ وقتُ تَخَلّي التعامُلِ الجنسويِّ المتصلبِ الذليلِ عن مكانه للحاجةِ إلى البحثِ عن صديقٍ ورفيق. ينبغي المعرفةَ أنه يستحيلُ عيشُ حياةٍ ثمينةٍ ذاتِ معنى، ما لَم يتحققْ عيشٌ سليمٌ مع المرأةِ ضمن المجتمع. علينا صياغةَ أقوالنا وتطويرَ ممارساتنا بالإدراكِ بأنّ الحياةَ الأثمنَ والأجملَ يمكنُ تحقيقُها مع المرأةِ الحرةِ المتمتعةِ تماماً بكرامتِها وعِزَّتِها. فإذا لم تهدف الثورة الذهنية الحياة الحرة والذي معيارها حرية المرأة، فأنها ستكون ثورة فاشلة وأنها تسير على درب الدوغمائية.
إن الثورة ببساطة تعني التغيير المستمر وإعادة البناء من الجديد، وبحد ذاتها ترتبط مباشرة بالحياة وصيرورتها، انها تعني الحياة بذاتها واعادة معنى للحياة التي فقدت معناها وصيرورتها، التي تتجسد في الحياة الحرة. لأن الثورة في أبسط معانيها؛ هي عملية إعادة المعنى إلى الحياة والانسان والمجتمع، وهي بداية لعملية نضالية من أجل حياة حرة، تفكير حر والسعي وراء الحقيقة. ولهذا بقدر ما تحمل الثورة حقيقة الحياة الحرة، فإنها بذلك القدر تنأى بنفسها عن الأوهام التي تحاول أن تحل محل الحياة الحقيقية. وبقدر ما تمثل الثورة من فكر تغيير الحياة، بنفس القدر تمثل فن إعادة بناء الحياة. الثورة ليست الرغبة بجعل الوضع الموجود مميتاً ودموياً، وإنما شعارها وجوهرها؛ هي خلق والاستمرار بالحياة الحرة.
فالثورةُ باختصار تعني إعادةَ اكتسابِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ والديمقراطيِّ لِماهياتِه تلك مجدَّداً وبمستوى أرقى، بعدما حَدَّ نظامُ المدنيةِ من مساحتِه وأعاقَ تطبيقَه على الدوام. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تجاوزنا لعصبيات القومية والدينية والمذهبية والنسوية والسلطوية والوصول الى حياة كريمة حرة وعادلة وتعايش ديمقراطي.
وربما يكون نموذج الحل الكونفدرالي الديمقراطي الذي لا يعطي مجال للعنف والانقسامات، طراز يعتمد على الطواعية. كما يوجد العديد من الأسباب التاريخية والاجتماعية التي تعطي المجال لأرضية صلبة لبناء الكونفدرالية الديمقراطية بقوة العملية الديمقراطية للشعب، وبهذا يمكن التخلص من الأنظمة اللا ديمقراطية والأوتوقراطية والثيوقراطية. والطراز التنظيمي للحل الكونفدرالي الديمقراطي هو الأنسب للتوافق مع الموزاييك الثقافي لدول الشرق الأوسط والتداخل اللغوي والديني الموجود فيه. وهذا الطراز هو القادر على حل المشاكل والقضايا ومعالجة الظواهر العديدة الموجودة في المنطقة.
وهكذا يصف السيد عبد الله أوجلان منظومة الكونفدرالية الديمقراطية من حيث جوهرها وهيكلية تنظيمها وتناسبها مع حقيقة الشرق الأوسط الموزائيكية ويقول: “إن الكونفدرالية الديمقراطية تمثل الحلَّ المناسبَ لشعوب الشرق أوسطية والعالم كافة، تعني تنظيم الأمة بدون دولة، وهي تنظيم الأقليات والثقافة والأديان وحتى تنظيم الجنس إلى جانب التنظيمات الأخرى، وهذا ما أصفه بالتنظيم الوطني الديمقراطي، بحيث تكون لكل قرية مجلس ديمقراطي. التاريخ مليء بالعديد من الأمثلة، كديمقراطية أثينا، والسومريين الذين امتلكوا تنظيم مشابه، وفي يومنا الراهن تبني أوروبا كونفدراليتها، والكونفدرالية الكردية تناسب الشرق الأوسط، والإسرائيليين والفلسطينيين يمكنهم تأسيس الكونفدرالية وبإمكان الاثنان والعشرون دولة عربية تأسيس كونفدرالية”.
إذاً، فإن مشروع الكونفدرالية الديمقراطية للشرق الأوسط مشروعٌ يستند إلى العقلية الديمقراطية، وتأخذ الحرية، العدالة، المساواة، التعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات والشعوب والأطياف وكافة المعتقدات، أساساً لبناء نظامه السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، البيئي والدفاعي. والأهم من كل ذلك هو أن الكونفدرالية الديمقراطية تتجاوز كل المفاهيم والأفكار الدوغمائية التسلطية الشمولية، وتتبنى الجدلية العلمية أساساً لها. فالديمقراطية بطبيعتها الديمومية تسود عبر منظومة فكرية منفتحة، فالكونفدرالية بجوهرها الديمقراطي تتصدى للذهنية الدوغمائية بكافة أشكالها وأنواعها، وفي نفس الوقت ترسخ الحرية والمساواة لكل معتقد يؤمن بالحرية والمساواة والعدالة والتعايش السلمي والحر.
إن عقد هذا المؤتمر وفي هذه الفترة في بغداد الذي تعاني الآهات والحسرات ولعنة بابل في نفس الوقت ربما كان الرد الأمثل لهذه الجغرافيا التي كانت يوماً ما مهد الحضارة البشرية. واستمرارية هذه المؤتمرات التي تبحث عن حلول للمشاكل والقضايا التي تعانيها المنطقة بشكل عام ربما يعتبر الرد الأمثل للتاريخ وبأن نكون الأحفاد الحقيقيين لهذه المنطقة التي لطالما كانت ولادة الحلول لأية مشاكل وقضايا تعاني منها. فبدلاً من البحث عن الحلول في الخارج ينبغي البدء من الداخل لأن هذه المنطقة والمجتمعات والثقافات تخبئ في داخلها الكثير من الأمل الذي تمنحه خلال عملية البحث عن تلك الحلول.
طرح مشروع الحوار العربي – الكردي الناجح كشعار للمؤتمر يعتبر بحد ذاته نجاح وخطوة سليمة نحو الخروج من حالة الاغتراب التي تعيشها المجتمعات وإعطاء الفرصة للنخب والمثقفين للبحث عن حلول لما تعانيه مجتمعاتهم. وفي ظل المئوية التي تعيشها المنطقة بشكل عام على تقسيمها لدول عديدة هشّة يدفعنا هذا إلى أن نفكر بصورة واقعية وحقيقية للبحث عن حوار بين الأخوة في الوطن. الجواب إن وجود الدستور وضمان حقوق الجميع بدون استثناء سيخلق لنا ايمان حقيقي يعزز الهوية الوطنية ويبدد مخاوف الاخرين من هضم الحقوق والتهميش الذي عانوه منذ سنوات طويلة.
فلا بديل عن التكاتف والتلاحم ما بين شعوب المنطقة وخاصة العرب والكرد منهم نظراً للعلاقات والتلاقح الثقافي والتاريخي بينهم، وأن الأمن الوجودي لِكِلا الشعبين مرتبط بشكل وثيق مع بعضه البعض ولا يمكن لأي من الشعبين أن يكون من دون وجود الآخر، ولا يمكن لأي من الشعبين أن يعيش الحرية والكرامة من دون الآخر بنفس الوقت. وهذا ما يحتم على كلا الشعبين أن يتوحدا أمام الهجمات التي تتعرض لها المنطقة لإخراجها من حالة الفوضى المستشرية فيها.