التجاوز إلى المحتوى
تحليل / نزار الجليدي كاتب و محلل سياسي مقيم بباريس
في نواميس الدبلوماسية الدولية هو أن الأساس في العلاقات بين الدول يكون ثنائيا أو في شكل اتحادات و ائتلافات و أحلاف.وهذه النواميس أيضا تحدّد أنّ العلاقات الدولية مهما كان شكلها ثنائيا أو ثلاثيا أو رباعيا لا يجب أن تحدّدها أو تتحددّ على أساسها دول أخرى أو ما يحدث فيها من خارج العلاقة نفسها .
في هذا الإطار تفهم الأزمة الأخيرة التي تفجّرت بين فرنسا و إيطاليا و التي تمّ فيها حشر اسم تونس من طرف وزير الداخلية الفرنسي الذي هاجم رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني قائلا أنّها“عاجزة عن حلّ مشاكل الهجرة في بلادها” التي تشهد وصول أعداد قياسية من المهاجرين عبر المتوسط بلغت أكثر من 33 ألف مهاجر وصلوا إلى سواحلها حتى منتصف أبريل الماضي.
وتابع دارمانان في تصريح لإذاعة rmc: “السيدة ميلوني، حكومة اليمين المتطرّف التي اختارها أصدقاء السيدة مارين لوبن (زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا)، عاجزة عن حلّ مشاكل الهجرة بعدما انتُخبت على هذا الأساس”.
و أضاف الوزير الفرنسي: “نعم، هناك تدفّق للمهاجرين خاصة القُصّر إلى جنوب فرنسا”، محمّلا إيطاليا مسؤولية ذلك بقوله: “الحقيقة أنّ هناك في تونس وضعا سياسيا يدفع عددا كبيرا من الأطفال إلى العبور نحو إيطاليا، والأخيرة عاجزة عن التعامل مع هذا الضغط من المهاجرين”.
هذه التصريحات ردّ عليها على الفور وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني الذي ألغى زيارة له كانت مقررة ليوم الخميس 4أبفريل متهما تصريحات الوزير الفرنسي بالإجرامية والذي صرّح بالقول أنّه لن يذهب إلى باريس للاجتماع المقرر مع نظيرته كاثرين كولونا مضيفا أنّ جرائم الوزير دارمانين في حق الحكومة وإيطاليا غير مقبولة، هذه ليست الروح التي يجب أن تواجه بها التحديات الأوروبية المشتركة.
هي حرب تصريحات تؤكّد أنّ العلاقات الإيطالية الفرنسية تاريخيّا لم تكن على ما يرام و أن البلدين لم يلملما جروح الحرب العالمية الثانية مثلما هو الأمر في العلاقات الفرنسية الألمانية .
والواقع أن الأزمات الديبلوماسية بين باريس و إيطاليا تشهد توترا مستمرا على الصعيد الرسمي لكن فيها ودّ لا يمكن تجاهله بين اليمين المتطرّف في البلدين وأن رئيسة الحكومة الإيطالية كانت تمنّي النفس بانتخاب صديقتها ماري لوبان رئيسة لفرنسا في الانتخابات الأخيرة وهذا ما يفسر خيبة أملها و أمل حكومتها ويفسّر البرود في التعامل مع الرئيس ماكرون وحكومته.
و الشيء الملفت للانتباه و الذي لم يحدث بين بلدين في الاتحاد الأوربي هو تكرر الأزمات الديبلوماسية بين البلدين و بنسق حثيث ومتقارب.
أزمة تجر أخرى
في السنتين الأخيرتين وقعت أزمات كثيرة بين باريس و روما وصلت ذروتها في شهر فيفري 2019 عندما سحبت باريس سفيرها من روما احتجاجا على تصريحات مسؤولين إيطاليين اعتبرتها “متجاوزة لكل الحدود”، انتقدت السياسة الفرنسية في أفريقيا وليبيا ومواقفها من قضية اللاجئين ومن حراك “السترات الصفراء” والرئيس إيمانويل ماكرون.
وفي شهر جوان 2018 وبعد أيام قليلة من وصول حكومة رئيس الوزراء جوسيبي كونتي إلى السلطة، أثار الرئيس ماكرون أزمة سياسية بعد أن استنكر “وقاحة” و “لا مسؤولية” الحكومة الإيطالية، إثر رفض روما استضافة سفينة كانت تقل 630 مهاجرا غير نظامي. وما زاد الطين بلّة تصريح غابرييل أتال المتحدث باسم حزب ماكرون “النهضة”، الموقف الإيطالي بأنه “مثير للاشمئزاز”.
وعلى إثر هذا المنع، استدعت باريس سفيرها في روما.
وفي نفس الشهر عاد الرئيس ماكرون ليثير غضب الإيطاليين من جديد بعد حديثه عن “تصاعد الجذام” في أوروبا و”خيانة حق اللجوء” و”إحياء القومية” و”سياسة الحدود المغلقة التي يقترحها البعض”، في إشارة إلى الحكومة الإيطالية.ليرد وزير الداخلية الإيطالي حينها سالفيني على الرئيس الفرنسي الذي وصفه بـ”المتعجرف”، قائلا “ربما نكون شعبويين مصابين بالجذام، لكنني أنا آخذ الدروس ممن يفتح موانئه.. استقبلوا آلافا من المهاجرين غير النظاميين وبعدها نتحدث”.
وفي شهر أكتوبر من نفس العام بثت الحكومة الفرنسية مقطعا مصورا يحض المواطنين على التصويت في الانتخابات الأوروبية المقررة حينها في ماي 2019، يظهر وزير الداخلية الإيطالي ونظيره النمساوي فيكتور أوربان، مع صيغة الاستفهام التالية “أوروبا: الوحدة أم الانقسام؟”.
وظهر في المقطع مهاجرون غير شرعيين تم إنقاذهم من الغرق، ثم سالفيني وأوربان يلهبان حشودا من أنصارهما.
و بعد عرض الفيديو، رد سالفيني عبر حسابه في تويتر قائلا “تنشر الحكومة الفرنسية بفضل أموال دافعي الضرائب مقطعا رسميا بشأن الانتخابات الأوروبية، يستخدمونني فيها كفزّاعة.. يبدو أن ماكرون وأصدقاءه خائفون للغاية. في عام 2019، ينتظرهم ربيع شعوب سيقتلعهم”.
وفي السابع من جانفي 2018، نشر نائب رئيس الوزراء الإيطالي وزعيم حركة “خمس نجوم” لويجي دي مايو على مدونة الحركة، رسالة مفتوحة عبر فيها عن دعمه لمتظاهري “السترات الصفراء” في فرنسا داعيا إياهم إلى عدم “التراجع”. وهي رسالة رسمية تخالف جميع الأعراف المعمول بها داخل منظومة الاتحاد الأوروبي، حيث لم يسبق لمسؤول دولة داخل الاتحاد أن دعم صراحة حركة تطالب بقلب النظام في دولة أوروبية أخرى.
بعدها بفترة وجيزة، جاء دور ماتيو سالفيني الذي أعلن هو أيضا دعمه “للمواطنين الشرفاء الذين يحتجون على رئيس يحكم ضد إرادة شعبه”.
وفي 20 جانفي، دعا دي مايو الاتحاد الأوروبي لفرض “عقوبات” على دول منها فرنسا، بتهمة “إفقار أفريقيا” ودفع المهاجرين للجوء إلى أوروبا من خلال سياساتها “الاستعمارية”. على إثرها، استدعت الخارجية الفرنسية السفيرة الإيطالية تيريزا كاستالدو، احتجاجا على هذه التصريحات التي اعتبرت “غير مقبولة”.
وكان أقوى تصريح عدّ معاديا حينما عبّر ماتيو سالفيني عن أمله في أن يتحرر الشعب الفرنسي قريبا من “رئيس سيئ للغاية”.
كما اتهم باريس بأنها لا ترغب في تهدئة الأوضاع في ليبيا التي يمزقها العنف بسبب مصالحها في قطاع الطاقة. وقال حينها للقناة التلفزيونية الخامسة الإيطالية “في ليبيا.. فرنسا لا ترغب في استقرار الوضع، ربما بسبب تضارب مصالحها النفطية مع مصالح إيطاليا”.
وزيرة الشؤون الأوروبية في فرنسا ناتالي لوازو، قالت إثرها إن باريس لن تدخل في “سباق أغبياء” مع إيطاليا، محذرة من أن الوضع إذا استمر على ما هو عليه فإن “زيارات المسؤولين الفرنسيين إلى إيطاليا لن تعود ضمن الأجندة”.
بعدها بأيام، وخلال زيارة إلى القاهرة، أدلى الرئيس ماكرون بتصريحات أخرى قال فيها إن “الشعب الإيطالي شعب صديق ويستحق قادة يليقون بتاريخه”.
وفي شهر فيفري 2018 بلغ التوتر حدته بين البلدين بعد أن أعلن لويجي دي مايو على مواقع التواصل الاجتماعي أنه التقى الأسبوع الماضي بضواحي باريس مسؤولين عن حراك “السترات الصفراء”.
وقررت باريس على إثر هذه “التدخلات والهجمات غير المسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، بحسبما وصفتها، استدعاء السفير الفرنسي لدى إيطاليا للتشاور.
صراع الديكة
هي سلسلة من التوترات لا تكاد تختفي حتى تعود للظهور وهذا يترجم أن المسؤولين في البلدين لايرغبان في علاقات سياسية طبيعية لغايات اقتصادية و اجتماعية فهما متنافسان في أكثر من مجال.
وصراعهما هو أشبه بصراع الديكة .لن يزيد الاتحاد الأوروبي سوى هوان على هوان خاصة مع المأزق الاقتصادي الذي يعيشه و مع تواصل الحرب الروسية التي أنهكته.ولابدّ أن تحلّ معضلة المهاجرين الغير شرعيين في إطار أوروبي و ليس في إطار ثنائي فرنسي إيطالي فالمسألة أكبر من الدولتين وكل أوروبا متضررة و مهدّدة من الهجرة الغير شرعية.