سليمان محمود
يشيعُ في بلاد مصرَ والشام والعراق استعمالُ كلمة( الاستكراد )، يتداولها العامةُ للتعبير عن موقفٍ أو حال. ولكي يثبتَ المرءُ في هذه البلاد أنه ليس غبياً أو بهلولاً، في حديثٍ أو مجلسٍ أو معاملة، يلفظها علناً: (أنا لستُ كردياً). وإذا أراد الواحدُ أن يثبتَ للآخر أنه ذكي وليس أحمقاً حتى تنطلي عليه الحيلةُ، يحذّرهُ بقوله: أتستكردني؟!
الاستكرادُ لفظةٌ مؤذيةٌ جداً للأكراد، وهم يسمعون الناسَ يتبرؤون منهم ليثبتوا أنهم ليسوا بحمقى!
إنّ كلمةَ الاستكراد- التي خرجت من عند المصريين أولاً- كانت في بداية الأمر مديحاً، ولقباً يُطلَق للمجاملة على غير الأكراد، تقديراً لهم ومبالغةً في احترامهم. فالأكرادُ الذين حكموا مصرَ والدول المجاورة لها أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي، اُشتهروا بالعدل والمعاملة الحسنة مع الناس، على أنّ الحكّام والقادة قبلهم ومن جاء بعدهم أيضاً من المماليك كانوا على النقيض من ذلك، برفع الضرائب على العامة وضربهم وتعذيبهم، وتودّدهم للإفرنجة الذين لم يلقوا من عامة المسلمين سوى الكراهية والرفض.
الأكراد- إذ لم يتساهلوا في مواجهة الصليبيين- لانت وتواضعت نفوسهم لعامة الناس في مصرَ وغيرها من الأمصار التي حكموها. واقترنَ عند الناس العدلُ والأخلاق الحسنة بالعنوان الكرديّ، نظراً لكون الحكّام والقادةُ الكبار في الدولة كانوا أكراداً، فأسد الدين شيركو وصلاح الدين الأيوبي وقاضي القضاة والقاضي الفاضل وقادةُ الديوان والجيش في معظمهم كانوا كُرداً.
ومن هنا فإنّ الناسَ البسطاء في مصرَ كانوا يجاملون الشرطة وحرّاسَ السجون والضباط الصغار في الجيش من المصريين بإطلاق لقب (الكردي )عليهم، لتبجيلهم وتعظيمهم عبرَ تشبيههم بطبقة الحكّام والأشراف في الدولة. والسببُ في أغلب الأوقات كان من أجل تجنّب الأذى من الشرطة وحراس السجون، وأحياناً في سبيل نيل الحاجات.
وحين كان الواحدُ يطلقُ لقبَ (الكردي) على أيّ شخصٍ في ذلك العهد، كان يعني بمثابة تشريفٍ للمقام وتعظيمٍ للشأن. لكنّ المصريين أفرطوا في استعمال المدح لرجالهم بالوصف الكرديّ، حتى كان السارقُ والمحتالُ والزاني ومن ارتكبوا جرائمَ مختلفة يتوسّلون إلى سجّانيهم وشرطتهم ألاّ يعذبوهم، بإطلاق اللقب الكردي عليهم: أنتَ كرديّ ولا تظلم. أنتَ كردي أي أنك طيبٌ ومتسامح.
لكنّ الشرطةَ وحرّاسَ السجون الذين كانوا يصرّون على إذاقة هؤلاء العذاب والضرب كانوا يردّون فوراً: (أتستكردني)!، أنا لستُ كردياً، وسأشبعكَ ضرباً. وهكذا بمرور الزمن تبدّلَ المفهومُ تدريجياً من مدحٍ إلى قدح. وأصبح القولُ (أنتَ كرديّ) حيلةً لنيل مرامٍ غير مقبول. وحتى يتخلّص المسؤولُ أو القائمُ على الشأن من الإحراج كان يجيب: (لا تستكردني. أنا لستُ كردياً). وهكذا، وربما لسوء حظّ الأكراد وطالعهم، أصبح عنوانهم الذي أوحى بالمجد والمديح إلى كلمةٍ متداولة لدى عامة شعوب المنطقة، تحملُ معنىً سلبياً، وذلك لتقطّع أسباب معرفة أصول الكلمة عندهم، أو الجذر الثقافي لهذه الشتيمة.
مظلومية الشعب الكردي
ملاحظة 1: الشعب الكردي من أكثر الشعوب مظلوميةً في العالم. ورغم ذلك لم يذكر التاريخ أنّ الأكرادَ احتلوا أرضَ أحدٍ ليتوسّعوا على حساب شعوبٍ أخرى، أو ليقوموا بإبادة شعبٍ آخر بهدف السيطرة عليه، كما فعل جيرانهم العربُ والفرس والترك، الذين امتلأ تاريخهم بالسواد بغرض بقائهم على مدى التاريخ.
ملاحظة2: إنّ المصريين أكثرُ ميلاً من الشعوب الأخرى إلى الفكاهة وإطلاق الأوصاف على الجميع، وحتى على أنفسهم (الصعايدة مثلاً عندهم والنوبيين) سخريةً وتفريغاً لشحنات الغضب والإحباط الناتجة عن الأزمات المعيشية المتلاحقة.
الطريفُ في الأمر أنه طالما استكردَ العالمُ بعضه البعض منذ مئات السنين! ومنذ 13 عاماً والنظام يستكردُ الشعبَ بقوله: انتهى الأمر والأمور بخير، والمعارضةُ تستكردُ العالم بقولها: سننتصرُ بإرادتنا ومبادئنا. والروسُ يستكردون تركيا، والأتراكُ يستكردون الجماعات والفصائل المسلحة بتسميتهم (الجيش الوطني الحرّ).. والآن جاء الجولاني ليستكردَ الجميع بخارطة طريقه الإرهابية.
وبما أنّ الجميعَ يحاولُ أن يستكردَ الجميع، فإنّ الجماهيرَ والشعبَ السوري قد يتحوّلُ في عام 2025 إلى أكراد!