بقلم: د. سماهر الخطيب
يبدو أن تحقيق الأمن والاستقرار في سوريا الجديدة، التي يطمح إليها السوريون، لا يزال يكتنفه الغموض والتكهنات. ويعود ذلك بشكل كبير إلى السيطرة شبه الكاملة للدولة التركية على قرار الإدارة الجديدة في دمشق. فتركيا مستمرة في فرض رؤيتها فيما يتعلق بالأكراد على الإدارة السورية الجديدة، معتبرة أن أي تمكين لهم في النظام السوري الجديد قد يمثل تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وتنظر تركيا إلى وحدات حماية الشعب الكردية في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المرابطة في شمال وشرق سوريا، كامتداد لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه على أنه جماعة إرهابية.
تصاعد التوتر على الحدود في سوريا
لا يزال التوتر قائماً على الحدود الشمالية لسوريا، حيث تشتبك قسد يومياً مع المسلحين الموالين لتركيا، مع إبقاء الجيش التركي على حالة التأهب. وتطالب أنقرة بتفكيك “قسد” وضمان أمن حدودها، وقد سبق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن صرح بأنه يتعين على المسلحين الأكراد في سوريا إلقاء أسلحتهم، وإلا فإنهم “سيدفنون في الأراضي السورية”.
قسد: مستمرون في القتال ومستعدون للحوار
من جهته، أكد القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، في آخر تصريحاته، أن الاشتباكات والمواجهات مستمرة في كوباني، وأن مقاتلي قسد يصدون هجمات الجماعات المسلحة التابعة لتركيا.
وقال: “في كوباني لا يزال القتال مستمراً، ومقاتلونا يقاومون الهجمات بشجاعة كبيرة”. وأكد عبدي استعداد قسد للمشاركة في أي عملية سياسية جديدة تهدف إلى بناء سوريا لا مركزية، قائلاً: “نحن مستعدون للمساهمة في العملية الجديدة لبناء سوريا لا مركزية”. في المقابل، لوح وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بشن عملية جديدة ما لم توافق الوحدات الكردية على شروط أنقرة، التي تقضي بنزع السلاح.
مناطق الإدارة الذاتية وقسد في شمال سوريا
يُشار إلى أن مناطق واسعة في شمال وشرق سوريا تخضع لسيطرة “الإدارة الذاتية”، التي أنشأتها وحدات حماية الشعب الكردية بعد اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، وانسحاب قوات نظام بشار الأسد منها حينها دون مواجهات.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية من أوائل الداعمين لها في إطار الجهود المشتركة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. وسبق لمستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، أن أفاد بأن “الأكراد أفضل شركاء لنا لمحاربة التنظيم، ونخشى أن ينشغلوا عن ذلك إذا حاربتهم تركيا”.
دعم بريطاني لقسد
يرى مراقبون أن هناك قوى أخرى تدعم قسد وتقف إلى جانبها في وجه الاعتداءات التركية، مثل بريطانيا. وعلى سبيل المثال، يذكر المراقبون العملية النوعية الناجحة التي حققتها قوات قسد منذ أيام في محيط سد تشرين ضد فصائل “أبو عمشة” الموالية لتركيا، حيث أسرت عدداً منهم، كان من بينهم جنديان تركيان.
ويبدو أن العملية المذكورة قد نجحت بفضل معلومات قدمتها المخابرات البريطانية لقسد عن أماكن تواجد المسلحين وتحركاتهم وأعدادهم وتسليحهم، مما يعني وجود تنسيق أمني ومعلوماتي بين الاستخبارات الغربية والبريطانية وقوات قسد بشكل مستمر. وهناك الكثير من المؤشرات التي تدل على وجود تعاون وثيق بين بريطانيا وقسد في الخفاء، وذلك لتجنب نشوء خلاف بين أنقرة ولندن.
مصالح مشتركة وتنافس خفي
تتشارك بريطانيا مع الولايات المتحدة في قضايا عالمية كثيرة، ومستقبل الأكراد في سوريا مرتبط بالدعم الأمريكي البريطاني المباشر لهم. كما أن البريطانيين يفضلون الإمساك بورقة ضغط (الأكراد) ضد تركيا، عوضاً عن الخوض معها في مفاوضات في ملفات أخرى تتعارض مصالح تركيا فيها مع مصالح الغرب.
في المقابل، يبدو أن تركيا تعول على تحقيق نصر سريع وإنهاء القضية الكردية بقوة السلاح، مستفيدة من وصول أحمد الشرع، المدعوم من تركيا وقائد هيئة تحرير الشام، إلى دمشق محرراً لها من نظام الأسد “الهارب”. إلا أنه وعلى أرض الواقع، تصطدم الطموحات التركية بتحركات الأكراد وحلفائهم، والمعطيات على الأرض تُظهر أن الصراع الحالي سيستمر ويتطور لصالح الكرد، ما دام أردوغان مصراً على مواقفه المعادية لهم.
علاقات معقدة
بطبيعة الحال، فإن الأتراك لن يتوقعوا من البريطانيين القيام بعمل ضدهم في سوريا، استناداً إلى الصداقة التي تربط بعض شخصيات النظام التركي برئيس المخابرات البريطانية، ريتشارد مور، الذي عمل طويلاً سفيراً لبلاده في تركيا، ناهيك عن الدور المفصلي الذي لعبته بريطانيا في إفشال الانقلاب العسكري الذي كاد يطيح بأردوغان في عام 2016، والذي نظمته المعارضة التركية حينها، وهذا ما استفادت منه “قسد” في عمليتها النوعية الآنفة الذكر.
يُشار إلى أن وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، صرح سابقاً بأن بلاده تعيد النظر مع حلفائها في العقوبات المفروضة على سوريا، خلال جلسة للبرلمان حول قضايا تتعلق بالسياسة الخارجية. وأوضح أن بلاده ستحكم على الحكومة السورية الجديدة بناء على أفعالها لا أقوالها.
وأضاف “نريد لهذه الحكومة أن تكون ناجحة، ونحن سعداء حتى الآن بالعملية في سوريا، ولكن كما ذكرنا سابقاً، بعض الأشياء التي شاهدناها في الميدان لم تكن جيدة”.
في هذا التصريح تأكيد آخر على أن البريطانيين لديهم مآخذ على السياسة التركية في سوريا وعلى الإدارة الجديدة في دمشق، والتي تعمل وفق الأجندة التركية. وهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام التمدد التركي في سوريا على حساب السوريين والأكراد في آنٍ معاً، وبالأحرى على حساب المصالح البريطانية في سوريا، باعتبار أن العلاقات الدولية تحكمها المصالح لا العواطف، لو كانت على حساب الشعوب.
اقرا أيضا